كتاب "دون أن ينتبه لذلك أحد" شعر - أحمد السلامي
دون أن ينتبه لذلك أحد
شعر: أحمد السلامي
صدر سنة 2006
أنا أعرفك يا أحمد سلامي
صيّاَد هزائم
مُفتعلُ انتحارات
هوية رومانسية تنشرخُ بين القبيلة والذات
صانِعُ ابتساماتٍ هادئةٍ
وجهُكَ العابِسُ مدهونٌ بالرضا
وأنتَ تُكِنُّ لهم سياطُ اشمئزازِكْ
دونَ أن تَدرسَ فنَّ التمثيلِ
ستجعلُ من يومِكَ خشبةً لا نهائيةً
حتى أحلامك المغلفة بالحب
امتدادٌ زائفٌ لمشهدٍ لم يكشفْ بعد
عندما أحببتها كنتَ تتعلم الكتابة
لكنَّكَ حينَ انقطَعت الفرص
ولم تعدْ أصابعها في يدك
حينذاك لم تكتبْ عن دفءٍ افتقدته
رحت كالمناضلين تبحثُ عن الحريةِ
رغم أنّكَ تسجنُ روحكَ في روحِك
أعرِفُكَ جيداً
تُصاحِبُ مسرات وهميةً
تنتشي بالفراغِ
وحينَ ينْسَلِخُ صمْتَ الليلِ
تبدأُ بِلَعْنِ الكائِناتْ.
* ** *
المدينةُ النائمةُ على أعصابكَ
كورشةِ عملٍ مجنونةٍ،
وأنت تفتحُ نوافذَ رئتيك
على سجائر الشك في قطار اليوم..
ثمة لعبة حلزونية تتحكم بساعات اليوم
الصناديق التي تخبئ فيها ضياعك
سنوات تنكسر تشبه مرايا رهيفة في الحلم
الانتظار المكتوب على الجبين
لغز العبور في طرقات متشابهة
مسلسلات لها رائحة التكرار
ثأر اللحظات من ليل ينسلخ
وأنت تداري خيبة الحرية
امرأة مشحونة بملل الوجود
شاعر يتأبط الرقة ليبدو رومانسياً
من أجل هدوء البال
الأسفلت المعفَّر بالغبار وهو يزحف تحت قدميك
مدينة مسحورة بأفيون غامض
عساكر ومجانين يرتشفون الوقت
وأنت كالعادة ترجع إلى الحفرة كل ليلة
وسوف تعلن ضجرك في الصباح
وأنت تنتقل من حفرة النوم
إلى حفرة الدوران.
* ** *
ستحتاج هذه الورقة أيضاً
ستحتاج كل الأوراق تقريباً
لأنك بلا أحد
وبلا نفسك حتى
نفسك المعلقة بغد سينمائي..
ستتعالج من مرضك السري
وستنجب طفلاً جميلاً
لا يشبهك بالضرورة
لأنك لست وسيماً بما يكفي لاستنساخك.
حين يصبح الفخذ طاولة للكتابة
يختفي البياض وتبقى أصوات الضجيج
وطلاء الجدران يستفز الضوء
ويجعل كل ما حولك يفكر بعقلك.
* ** *
تستعجل دائماً ثم تندم
يقولون إنك متردد،
وهذا لا يكفي
لأنك لا تتخذ رأياً من الأساس.
حين قرأت قصائد (سركون بولص) قلت هذا صديقي
وحين بدأت الكتابة لم تعد تقرأ
وقلت البياض صديقي
لكن الغرفة دائماً هاجسك
تبحث عن مكان سري لأوراقك
عن بلد مهجور من أمثالك
الجدران وحدها بياض متعرج
لو تسافر فجأة وتترك كل شيء
حتى الأوراق التي كتبتها منذ زمن
تشبه كتاباً سرياً لم يقرأه أحد
ولَديك من الرماد ما يكفي
هل بقيت أوراق لم تحترق؟
هل أخذت الريح قصيدة مجهولة
وتسأل حتى عرق الجلد
هل تتشابه الروائح
أم أنك تستعجل دائماً
حتى وأنت تكتب قصيدة عاقلة
الصفحة ليست عريضة إلى هذا الحد
ولست حكيماً لتختصر كل شيء
لكن الحمى منظمة
ترتب هذيانك جيداً
لهذا تضع (الأسباب) وتغامر في الحياة
أكثر من الكتابة.
* ** *
لن أسمي ما سأكتب
ليس هذا شعراً بالضرورة
ولست مضطراً إلى تكبد عناء التصورات الجاهزة
أجمل ما في الألغاز غموضها..
الاكتشاف عادة سيئة.
الأجساد التي لا تتوقف عن الحكي بألسنة الرغبة
كانت هناك تُعِدُّ أطباق الانصهار
وأنت جسد وحيد يشبه البداية
شرر يشعل طاقته ليصنع ظلامه الداخلي.
الهرب إلى الشارع
صحراء المدينة
خلوة التيه في خطوات تبدو مقصودة.
ألعن الزجاج الذي من أجله تبتسم الوجوه
وهي تخدع نفسها بالانسجام
مرايا للأطفال الكبار
ينسحرون بأناقة متخيلة في التقاطيع
أحلام ديناصورية بالخلود
والروح تهترئ
تتقمص دور فرن داخلي
اسمه جحيم الذات.
قضايا كبرى ما تزال عالقة
في مصعد الكائن
في رؤوس المجانين الذين يشبهوننا قليلاً
ولا نصدق أرقهم اللانهائي
بحثاً عن جوابٍ لسؤال قديم.
* ** *
الغابة كلها في رأس همجي واحد
الأغلبية يشبهون طرزان وهو يرتدي بذلة أنيقة
ما شأن الواحد بالواحد إن لن يكن من أجل البقاء
حتى معجون الأسنان
له وظيفة مسرحية تشبه دور الماكياج
وأنت مربوط إلى جذع الكتابة
مصير مضحك لمن يستجدي مجدًا من الضياع
دوائر الحصار من حولك تفرز فقاعاتها فيضيق التنفس
الأمر لا يحتاج إلى تفكير عميق
القصيدة سهلة حين تكون رسالة إلى حقيبتك مثلاً
أو حين تكون مقاومة لقصيدة أخرى حالمة بالمجاز.
ينبغي أن تتأكد أن الجميع قد ناموا
كي تشعل سيجارة الكتابة
هذا القلق الشخصي من افتضاح العزلة
هذا التكرار الذي تزوج وعيك
سطوة اليوم الذي يتشابه مع الأمس والغد
بياض الآتي الذي يتحداك
وحش سينمائي تضمن هديره
ربما يشبه الخوف من الجنون.
الأسباب الغامضة تمتدح الموت
الأسباب تقترح مفارقة الطفولة
من أجل ذلك لا ينفع الدلال مع الزمن
الصاعقة تعلن عبورنا للوجود المؤقت
لهذا نحمل الغابات في رؤوسنا
لهذا نقترح وجوداً أطول نُفصِّله بالأظافر.
* ** *
وأنت تجلس وحيداً مع بهجة أفكار خاصة
هل ستحاول أن تتذكر أشياء حدثت
كالقيامة الصباحية لروحك
أو جاذبية المخدة وصراعها المرير مع جدولك المقترح
سيجارة واحدة كالسر الخطير في الجيب
ومنشفة سوداء تخفي عرقاً يابسا
حيث الناصية التي اعتادت وقوفك بانتظار الحافلة
حيث أفكار تتلبد بالحيرة
أتراجع عن الخوض في ثنايا جسد العابرة
اعرفها من عطرها
اعرف سرَّها جيداً لكن الجدول مزحوم
هكذا تتأجل أفراح الجسد.
* ** *
هذه الأيام مبتورة البهجة
اعتيادية آلية كمحتويات حقيبة موظف مرتب
عندما تصل إلى نقطة لا تعرف أنك وصلت
تنبش أحلاما بعيدة
هل هذه هي الحياة
تتناثر الكلمات كأحجار انتفاضة بلا هدف
صور عديدة لموتى يحاصرونك بإرثهم في الوجود
زحام في الجدران أيضاً
وأنت تخجل من الكاميرا
أو على الأرجح لا تثق بملامح وجهك
تماماً مثلما تتحاشى المرآة
أو تغلق الهاتف الجوال ليوم أو يومين
ثم تتخيل أصواتاً ملائكية كانت ترغب في محادثتك
إذا صنعت الندم بنفسك شعرت بقيمة الخيبة
بجوهر اليأس وهو يحفرُ لك قبراً في الفراش
وتحلمُ بجدك الأول
حين ارتمى فوق السحاب
حين دشَّن الجنون في العائلة.
* ** *
ببهجة قليلة ستستقبل هذا الصباح
سيتراقص بؤبؤ العين
بانتظار موعد الصحو المتأخر عادةً
كلما هبَّ شبح الوقت ازددت قرباً من نفسي
أتحاشى الأصدقاء: جرذان الروح
بعضهم ينخر كسوسة في دمك
والبعض يفرش مناديله القذرة أمام عينيك
كي تغتصب ابتسامة إجبارية من أجله
من يبيع أحلامه سوى الكاتب
من يخون سهره سوى الشاعر
يكتب وعلى طاولته بياض غفير
وجمهورٌ مغلّف بالدهشة
أوهام كثيرةٌ تحرِّك العالمْ
وهم المحبة والرومانسية
وهم القوة تسحق الذين نكرههم
نكْرهُ
لأننا نحلمُ بامتلاك الآخرين
نريدهم أن يعبدونا صامتين.
* ** *
المدينة غارقة في ألغازها البسيطة
امرأة تُدخن وحشة الشارع
انشغال لا يبرره الضجيج
هذا ليس وقتاً مناسباً لكتابة قصيدة
فقط سأرتب مشاكلي
وظيفة تنتحل شخصيتك فتبدو رسمياً
شارع يسلب قدميك
عائلة غير مستوية لا تصلح للحب
فراغ يمضي بجوارك
ثمة حشد يصفق لمنصة يجلس عليها عصفور ميت
صمتٌ يجاور الكلام
وشاعرة وحيدة تتحدث عن جسد آيل
ثمة خلل في الروح
ثمة جنون غير مرئي
يتسلق أربطة العنق
يواري رطانة المحاضرة العميقة
حبُّ الوطن طريقةٌ مناسبة لليأس
مشنقةٌ تضمن موتاً اعتيادياً.
قلبك غير مرتب
لست فرحاً بالحياة
قلبك مُعلّق على جدار العمر.
البيوت الأنيقة ترفرف في ذاكرة سينمائية
النساء الجميلات يرقصن في التليفزيون
نساء أخريات ينتظرنك على أغلفة المجلات
الأمل الخادع: شبق الوحيد في ليل بلا امرأة
قلبك غير مرتب تماماً
قلق في العبارة
مجون افتراضي
فِراش وثير يطير في الحلم
فوضى الخطوات وأنت تبدأ يومك بشجار صباحي
غير مرتب تماماً
وأنت تجلس إلى (الإنترنت) بالساعات
ماذا تصنع سوى مغازلة نساء تفوح من حروفهن الذكورة
تسألها موعداً
وأنت تعرف
أن الطرف الآخر
مجرد مراهق
لم يترب جيداً على الرجولة.
أفخاذ عارية يحتك بياضها
شخصيات كرتون تشهق عند احتلاب اللذة
العالم يسخرُ من نفسه
يغزل شباك المرح للعين
وثمة أطفال يغرقون في الوهم
يرسمون أحلامهم بمداد الطيش
يرتهنون لبطولة خادعة
هكذا نغرق في شبر من العمر
هكذا تكون البداية كي لا ننتهي.
* ** *
هاتفك مقطوع.. إذن.. أنت شاعر
مثل علي الشاهري
حين يسبح في دم الحاجة والديون
لكنه يكتب قصيدة عن لينا
أو يحكي عن تورطه في مصادقة لصوص البنك
وهو الذي ينام حافياً حتى من وطن.
زوجتك غاضبة.. أنت شاعر
مثل علي الشاهري.. لم يتزوج
لكنه يدلل (كلوديا شيفر)
يبتسم لنساء الفضائيات
ويقترح عليهن الصداقة.
أنت شاعر..
إذن أنت مثله تماماً
تُربِّي لقصيدتك طفلة فقيرة
تُهَيئُّ شفاهها للقبلة
تُعلِّمُ نهديها جُرأة النفور
تعدها بأسنان جديدة لأصابعك
وترشي حضورها ببرتقالتين
وبقصيدة مُستقبلية عن دفء العناق
وشبق البوسة الطويلة.
أنت أيضا مثله
تُعَرِّضُ نفسك – دون أن تقصد – لحوادث السير
كأن تقف وسط الشارع
تُفكرُ في حدود الكون لبرهة
ثم تقفز في اللحظة الحرجة إلى الرصيف
وتبدأ بالحديث عن محاولة فاشلة لصهرك بالأسفلت.
أنت مثله حين تسافر مع خيال امرأة
وتحجز لها غرفة في الفندق
حين ترثي بوذا
حين تبحث عن قبور الشعراء
حين تكتشف عرساً في السماء
حين (يبكي قلبك إذا مازحته عيون النساء)
وحين تموت وفي رأسك قصيدة
لن يكتبها أحد.
* ** *
أرتجل أوهامي المتشابهة،
كجدول حياة عصفور سجين.
سوى الجسد لا زهرة في يدي..
ملذات يمكن قطفها،
وأخرى يمكن بذرها في صميم الليل.
اللعنات المكتومة في طرقات عبوري
حفرتها من أجلي
كي أتذكر أنني راكد في مكان وحيد
ملوث بهواء رئتيَّ،
وبأحلام صغيرة لم تكبر.
هذه ملهاتي المزينة بالأصابع
تُسلي وحشة وجودي
ملاكاً في مستنقع الآدمية
تنقصه أجنحة الهرب من ذاته
والقليل من الإيمان بالعدم
كضرورة للخلاص
من محنة التوق الأبدي
إلى المستحيل.
قد ينام الجسد
لكن الروح في جحيم سهرها
المضاء بنهار الغد ..
الغد الذي أجده دائماً كحقيبة فارغة
وجدها أحدهم قبلي
وترك لي أوساخ اليوم المعفر بطين التشابه..
أحدهم أيضاً
ترك لي رغبة لا نهائيةً في الغياب
لكنني أحضر كملعقة ملح زائدة عن الحاجة.
فلأترك لهم اللاشيء
وآخذ معي جنوناً راكداً في السهر
وأشياء أخرى مزيفة
كأرقام هواتف لا أستعملها
وإحصاءات بأصدقاء مؤجلين
يشبهون ثياباً جديدة
لم يستعملها رجلٌ ميت.
* ** *
بسيجارة واحدة أعود إلى ضجيجي
فتيلُ يومٍ ناقصٍ..
أخيراً
وجدت الحل
لا بد أن أرى الشمس مبكراً
شمس الظهيرة تُشبه يأس العاشق
لا أحد يجبرني على المكوث في الأحلام سواي
قد أحتاج إلى ثورة صغيرة بيضاء
ثورة على المخدة المبللة بلعاب النوم الطويل
قد أحتاجني نشيطاً بكسلٍ مؤجلٍ للإجازات.
دائماً تمرُّ الحياة في الحلم
دائماً أختصرُ المسافات بنفيها
كأن أقول - مثلاً - لست بحاجة للصباح
مع أنني بلا صباح منذ زمن.
هل يكفي أن ترى الشروق في شاشة كمبيوترك
أم أن السهر يخلق لك صباحاً مشمساً في منتصف الليل؟
كل شيء متروك لعناية المزاج
وطاحونة الحاجة
كأن تقول مثلاً : أنا موجود
رغم أن لا دليل لوجودك
سوى امتلاء المنفضة بأعقاب السجائر
وتناقص السكر في المطبخ
هذا يكفي لتعرف أنك ما تزال حياً.
* ** *
الشمس في بؤبؤ العين
صباح كأنه جديد تماماً
رغم تكرره كل صباح.
عندما نقنن الحياة
نتحول بها إلى قاعة درس
يفترض بي التحليق كالطائر.
المغارة التي بداخلي تتسع
البطاقة الشخصية تفقد دلالتها
كرت تعارف بيني وبين نفسي.
للكسل أمجاده وأقنعته
للقناعة كنز من الوهم
صباحٌ جديدٌ
رغم أن الشمس هي الشمس.
* ** *
الطفولة التي يتغنون بها
الأمهات اللواتي أرضعنهم
الشموع التي أشعلوها في أعياد ميلادهم
الأحضان الدافئة التي استقبلت أفراحهم وأحزانهم
وكلما حدثني عنه أصدقائي
لم يكن بالنسبة إلي سوى خيالات سينمائية
وربما لقطات تصلح لاستثمارها في الكتابة.
ما زلت هنا أفكر في حياتي التي أوشكت على النهاية قبل أن تبدأ
كل يوم أخدعه بالغد الذي سيكون أفضل كما يقولون
كل أغنية أحاول أن أتعلق بها تخونني بالسقوط من الذاكرة
الذاكرة التي امتلأت بوعود وأكاذيب صنعتها لنفسي
أكاذيب ملونة بوسعها أن تحمل ساعات الغد قبل أن تنفجر كبالون
لهذا السبب يتساوى النوم مع اليقظة
لهذا السبب أحلم في الظهيرة بسماء مرصعة بالنجوم
واحلم أيضاً بما يمكن أن يعلق أطول فترة ممكنة بالذاكرة.
* ** *
هذا السهر يستنزف حيوانات عديدة
تخرج من قفصها لترعى في الفراش
ألم يكن من الأجدى توفيرها لحلم يتشكل في الوهم.
الحمى تنزُّ عرقاً
كأنها لعنة مكتومة في صدر الليل
لم يعد من الممكن تأجيل الصباح
لم يعد من الممكن إيقاف هذه الذبابة عن محاولات الانتحار
وهي ترتطم بجدران الغرفة ملسوعة بدخان السجائر
ليلة واحدة في الأسبوع تكفي لتأمل المنفضة وهي تمتلئ بالأعقاب
مهمة شاقة تصلح لسجين حقيقي
فراغ يحرس الضوء الخافت للمكان
وقبائل تحشد حرابها في الذاكرة
تتصارع من أجل تأخير القيامة
وأصدقاء عديدين يلوحون بأسمائهم في وجهي
هكذا تنتهي نوبة الليلة
بعصافير مجهولة الأعشاش، تزقزق بالضرورة
رغم أني أشك في وجودها أصلاً
لكنه الصباح
يباشر طقوسه
ويخلق بنفسه عصافيره.
* ** *
أنساني الحلم أن أعيش وأن أحلم
غير مبال بأصوات الهوام فوق رأسي
أو رنين (الهاتف)
وحاجتي لإشعال سيجارة
أو إبعاد لحظة ندم شاردة
تتكور بجانبي
لحظة ندم تشبه الزوجة في عويلها
كلما تخيلت نفادي من بيتها
تماما كما ينفد الملح.
* ** *
دون أن ينتبه لذلك أحد
الحياة تواصل عبورها
أتفقد آثار الأمس على وجهي
أقول صباح الخير للمرآة
وأبدأ السير في الصالة
بوسعي كسر العزلة
أحياناً بتذكر أطفال صادقوني
لا لشيء
إلا لمجرد ابتسامة باهتة
لا تشبه دهشتهم بالحياة والوجوه
لا جديد
سوى هاتف يرن
وصوت على الطرف الآخر
يقول مثل البارحة: صباح الخير
ستمطر اليوم أيضا
وسيتسخ حذائي بالطين مجدداً
حين أذهب إلى اللامكان
لأعود إلى البيت
بانتظار صباح جديد
في حياة
تواصل عبورها كالعادة
ودون أن ينتبه لذلك أحد.
* ** *
يسهر الجسد أحياناً
كي تنام الروح على سرير الوحدة
في العزلة أيضا احلم بما لم أجده
كنت أرغب في السفر بعيداً
لكنني أسافر الآن مع امرأة تشبهني بأحلامها
إنها أنتِ
حين تبتسمين للباب الذي ينفتح
دون أن أدخل أحيانا.
قد تجدينني جسداً يقف في صالة البيت
لكنني غائب تماماً عنكِ
وبعد لحظات قليلة ستعثرين عليّ
بعد أن أتخلص من ركام الشارع
ومن الحديث الطويل مع سائق التاكسي
.....................
ما الذي يمكن أن يدور بيننا بعد ذلك
أسألك عن الأشياء التي أعجبتك في السوق
الأشياء التي لن أقدر على شرائها
على الأقل هذا الشهر
كم قبلة أضعناها لأسباب لا أجهلها
يمكنني أن أقول بأنني سريع الضجر
من العالم
ومن سائقي سيارات الأجرة
ومن مطبات الطريق
ومطبات الغد
لكن خطتي الجديدة لتجاوز كل المطبات جاهزة
سأكون كالآخرين
رجلا ذكياً في التعامل مع الحياة
وقبل أن أفكر في محاولة التسلق في الوظيفة
سأبدأ بمحاولة صعود سلم البيت دون تعثر.
* ** *
كحلم خافت يولد اليوم من بين جفنيّ
أستدل عليه بصحوي
وبالعثور على سلسلة مفاتيح بأسنان عديدة
رغم أن باباً واحدا يكفي للعزلة
.........................
...........................
وكأن عليّ أن أكتب بالضرورة
هكذا يحتفظ المرء بأوهامه
وبملذات عائمة
كمواقع ويب افتراضية
لذلك تعلمت كيف أفترض سعادتي:
أحلام تتراكم بافتراض تحققها
أصدقاء أفترض روعتهم
لأنهم بعيدون
تماماً كالأحلام التي نقربها من الأمل
ونصطنع شجاعة نادرة
حين نغادر البيت دون هدف
حين نأمل العثور على الهدف عند العتبة.
* ** *
بلاطة واحدة على الرصيف
تكفي لأمشي بجوارك
وأنت تتأملين الفرصة المناسبة لعبور الشارع
تتنازلين عن الفرصة
حين أعبر داخلي:
أمر على الجدة وهي تنام في قلبي
تتأمل جلد يديها الذابلتين
تخربش ببنانها فروة رأسي
الذي لم يفهم حتى الآن
لماذا اختفت فجأة
ولماذا ضعت بعدها في قراءة الروايات
مئة عام من البحث عن العلف لأبقارها
مئة عام من العزلة داخل جلدها
..................
أخيراً عبرنا الشارع
وأخيراً
اكتشفت
أنني
عبرت الحياة أيضاً.
* ** *
في صباح مُغلفٍ بنكهة السهر
أتفقد سيناريوهات الملل
وأهيئ أسباباً للقبول بيوم إضافي في محرقة اللازم
كنت في النوم أغازل المسافة بين نقطتين:
أنا وصنبور الماء..
أن تتحول إلى نقطة
فذلك يجعلك قابلاً للإمحاء
سأبدأ بحماسة للحياة كالعادة
بحماسة منقطعة النظير
يقودها شغف اعتيادي بالنيكوتين
وبابتسامات متوقعة
تحملها الظهيرة المشمسة إلى مرمى عينيّ
أوهام كثيرة تتبدد
الشارع يرفل في سواد الأسفلت
والنفايات تطارد أحلامي
الحقيبة ذاتها المدفونة في نفايات الشارع
الحقيبة الكنز تظل شغفاً اعتيادياً
وثمة أسباب أخرى تدعو لتقبِّل اليوم كسابقه
كأن نتفنن في الرد على الهاتف بجمل احتيالية
تلتف حول عنق المتصل بعناية
لكنني قد لا أنتبه أحياناً كثيرةً
بأن ثمة جملاً كهذه تلتف حول عنقي أيضاً
فلأجرب ما الذي سيحدث اليوم
ثمة شيء ما بانتظاري
بالأمس لم أجد الحقيبة
يبدو أنني لم أفتح عينيّ جيداً.
* ** *
أنا تَعبٌ جداً
أشبه السكران الذي راقص دجاجة مشويةً
ثم بكى على جلدها الناضج.
حين كانت الحديقة سرير الضائع
حين حاول سد منافذ القلق بالأجراس
الموعد القادم للانتحار يشبه أحلاما تتعثر:
بلاد نظيفة ترتب لك المستقبل وتفرش لك الأمل
سفينة خرافية تشبه (تيتانك)
تبحر بك مع مهرجان بشري لجمال الروح
حياة أنموذجية تمنحك امرأة بابتسامات حريرية
أفراح تحتشد في القلب
هذا فيلمك المفضل
لكنك عوضاً عنه
تشاهد الجحيم وهو يبتلعك..
* ** *
مثل كل مرَّةٍ – عندما أرهق من طول السهر
عندما أبدو ثملاً من دون كأس
مثل كل مرَّة
أتذكرُ أعدائي الذين لم أخترهم
أحدهم يحقد عليّ
لمجرد أنني موجود على هذا الكوكب.
* ** *
ستتغير الأمور
سيكون كل شيء على ما يرام
سأنتقي امرأة بيضاء ونحيفة
ليست نحيفة تماماً
لكنها على الأقل ستكون مثلي
وسأتأكد أنها لا تتأفف من قبلة الفم
ومن أشياء أخرى لذيذة وسرية
يمكن أن يقوم بها الفم
كالصمت..
وقبل أي شيء
عليَّ أن أخبرها بمزاجي اليومي:
عودتي المتأخرة ليلاً
زجاجتي القابلة للكسر
سهري وامتلاء المنفضة
غرفتي الخاصة بفوضاها
جرائد وكمبيوتر وأفلام رعب
موسيقى تركية وعلب ماء فارغة
كتب وروايات مترجمة
أصدقاء على الهاتف
وضحكاتي لأسباب خاصة
طقوس أصابعي قبل الفجر
جواربي المتعفنة عند الباب
اكتشافي الليلي المتأخر بأنني جائع
نومي حتى الظهيرة
والبياض الذي أكتب عليه مثل هذه الكوابيس.
* ** *
عندما استيقظَ طفل المشاريع النهارية (الفاشلة)
تزاحمت حول فِراشه أحلام مُفهرسة
يستغرق في النوم – فقط – من أجل الشعور بما يشبه الموت
النوم المنسي.. مثل مُعمَّر فاته قطار القبر
النوم المُسكِّن لذكريات الشكِّ في القدرة على مواجهة الكائنات
عندما استيقظ – غسل وجهه بشجار صباحي
يسمونه ملح العائلات السعيدة..
* ** *
قبل أن أرسم خطة اليوم العادية
أفكر في جريدة عمياء
تأكل شفتيّ بالتكرارات منذ ولدت
إحباطات البشر – نفسها – تتكدس في انسداد حركة السير
وأنا أستقل التاكسي
أتذكر مهمة يائسة وخجولة
كالبحث الكسول عن جوارب خالية من رائحة قدميّ
أو كالوقوف أمام شبّاك ضيق مع شحّاذين
من أجل تبديل عملة ورقية تالفة
تشبه أدمغة ملطّخة بالشلل
من أجل ماذا أستيقظ؟
من أجل سيجارة على لحم البطن
زحام وإشارات، واعتصام مسرحي مبرمج
حافلات تقود معذبين أُجبروا على تمثيل دور الجماهير
في حدثٍ يجهلونه.
كل شيء مرتب بعناية..
المرور الجماعي للحافلات يفضح زيف الاحتجاج
في حين العالم يسبح في فوضاه
والأحذية ترتدي البشر في المدينة
برابرة يغتصبون النهار بوحشية خطوات التائه.
في هذا الوقت بالذات
يجلس باحثٌ جاد على كرسيه
يناقش الماجستير في النظام والحياة المرتبة
لا أحد في القاعة سوى المحكَّمين
يرطنون بملاحظاتهم المنهجية للكراسي الفارغة
ورغم ذلك يتبادلون الميكرفون
نهار آخر يحتلب خطو أرواحنا
نهار يزاحم الزحام
يسأل عن أسباب الشجارات
ويطبع جرائد كثيرة لمقاومة الملل
وحين يأتي الليل
تتهلل الأسارير
وتذهب الحشود إلى موت مؤقت.
* ** *
قبل أن أدخل القفص – كما يقولون
كنت أمشِّط شعر المخدة..
بروفة لم يكتب لها سوى لعناتكِ
تلبسين قناع الضجر
كأنه وجهك الأصلي
تنتشلينه من تحت المخدة
فأحتاج إلى النيكوتين
أبدأ بإشعال سجائري
وأنا الذي كنت أحلم باشتعال القبلات.
هكذا يبدأ الصباح
تكنسين المنزل
تضعينني كنفاية داخل حقيبة الوظيفة
وترمينها إلى الشارع
وحين أعود
أترنم بأغنية عاطفية
أجعلها وردةً تسبقني إلى أذنيكِ
فأسمع ارتطامها بتجهمكِ
هذه ليست النهاية
* ** *
القلب الطيب وحده لا يكفي
تلك الطيبة التي تعاملين بها نفسك
تسامحين نهاراتك
وتمضين في صراخك
حتى وأنتِ تحاولين الغناء بعصبية في المطبخ
تستيقظين كضيفة عابرة
كامرأة ليل لا شأن لها بصباحي
الذي يحتاج إلى تدليل ما
حتى الشراشف المتروكة على السرير
تستغرب دفئنا المشتت
حرارة جسدينا المتخاصمين:
بقعتين منفصلتين على سرير واحد.
علينا أن نعترف أنا وأنتِ
بأننا كذبنا على بعضنا
ها أنتِ ترتدين فرحةً مجهولة في المساء
وتحزنين في الصباح كجريدة امتلأت بالتعازي
ما الذي يفقد الجمال جماله
سوى فشله في الإحساس بالجمال.
كان التمثيل مرحلةً وسطى بالنسبة لزوجين
حاولا الحب والكراهية.
نحن إخوة في الندم
رفقاء يأس
أحباب الفرص الضائعة.
ها أنا مطفئ إلا من التنفس
بذاكرة خالية تماماً
إلا من ضجيج خافت لغبار الماضي
الماضي الذي تعرفين حجم عذاباته
كأنه مجرد أمس يوم واحد
لكنه أطول من أي أمس.
لم يكن قد تبقى بيننا سوى ثيابنا المتداخلة
تتعانق داخل الدولاب بشغف الفقدان القريب
كانت تتوادع وتتبادل الرائحة
الرائحة التي لفرط مشاكلنا لم نسمها عطراً
كان من المشقات أن نظطر إلى الابتسام
حفاظاً على تصوراتهم حولنا
ولاختبار معرفتنا بالإتيكيت.
لم يتبق منك سوى ملامح باهتة
كمن يسافر إلى بعيد ويترك لك اسمه
وما أسهل أن ننسى الأسماء أيضاً.
ليس ثمة مرآة لكشف الداخل
رغم تعبكِ في الوقوف أمام المرآة.
وأخيراً قررت أن أهرب من الفضيحة إلى عمقها
لم أعد اهتم إلا بإنقاذ روحي
وربما أكون قد أنقذتك أيضاً
لا أحد يشنق نفسه إلى الآخرين
لا أحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد السلامي
2006
تعليقات
إرسال تعليق