الشاعر أحمد السلامي: الحرب فرضت أولوياتها وأدت إلى الشتات والضياع وإلى إغلاق المنابر الثقافية
حاورته: ميسون الإرياني* (2022)
منذ 2015 تقريبا لم نعد نسمع عن الشاعر أحمد السلامي ولا نقرأ جديده...؟
أعتقد أن مسألة الحضور المنتظم تختص أكثر بالفنون الجماهيرية وروادها
والمشتغلين بها مثل المطربين والممثلين، أما الأدب فهو مرادف للعزلة حتى في الظروف
الطبيعية. وعندما يواجه المشتغل بهذا الحقل زمن الحرب أمامه مثل جدار لا يمكنه إلا
أن يقف لتلمس طريقه والبحث عن مخرج طوارئ وفسحة أمان. ونحن عملياً نمر في اليمن
بحالة فوضى وقلق وجودي شامل منذ سنة 2011 وليس فقط منذ 2015. قد تنتج الحرب وأزمنة
الفوضى نصوصاً، لكنها لا توفر مساحة لحضور المبدع أو لاستحضار نفسه ومنح أولوية
للنشر الذي يصبح ترفاً ونشاطاً يتطلب تجاهل الواقع. الحضور الأكثر جلبة والأعلى
صوتاً في مثل هذه الظروف يكون من نصيب المحللين وصناع الشعارات التي تحتاجها الجبهات
والأطراف المتحاربة. في هذا الظرف أيضاً يصبح الغياب موقفاً أخلاقياً إيجابياً ربما
مقارنة بمن يدقون الطبول.
كنا نتواجد قبل الحرب ونطل على القراء من خلال الزوايا الأدبية في
الصحف والملاحق الثقافية والآن لم يتبق لنا سوى نوافذنا الشخصية على وسائل التواصل
الاجتماعي. كل ما له صلة بالثقافة والأدب في الساحة اليمنية لا يزال في حالة غياب،
لأن الحرب فرضت أولوياتها وأدت إلى الشتات والضياع وإلى إغلاق الصحف والمنابر
الثقافية، كما أن الحلم بعودة السلام والاستقرار يأخذ حيزاً أكثر من الاهتمام
ويحتل الأولوية.
أين يرى الشاعر أحمد السلامي نفسه في خريطة المشهد الثقافي اليمني
والعربي اليوم؟
أنتمي لجيل التسعينيات، وأحسب أن هذا الجيل حقق الكثير من الحضور
والنشاط والفاعلية الثقافية والتأثير بتفاوت يختلف من بلد لآخر. أما على مستوى
تقييم التجربة الشخصية فهذا الأمر متروك للناقد وللزمن. لا يزال النقاد حتى الآن
يكتبون عن تجارب السبعينيات ويقيمون منتجها النصي والعطاء المستمر لكثير من
روادها، ولا يزال أمام جيلنا الأدبي الأحدث الكثير من الوقت قبل أن تتموضع تجارب
فردية منه في خانة تمكن الناقد وصاحب التجربة نفسه من تقييم منتجه. لا يزال العطاء
قابل للتراكم، والجميع لديهم الكثير من المشاريع والمخطوطات في الأدراج. وبالتالي
فإن الحكم على تجارب جيلنا من منظور فردي أمر مبكر. وبرؤية عامة أعتقد أن الركود
الذي وفره استقرار قصيدة النثر وشيوعها وخفوت المعارك بشأنها يجب أن يفضي إلى تطور
ينتظره الجميع بترقب. وهنا يأتي دور الاشتغال الفردي. لدي هواجس ومحاولات لإعادة
التموضع في المشهد وأعمل على هذا الجانب مدفوعاً بعدم تصالحي مع اليقين السائد. نحن
حتى الآن نقتنص لحظات الكتابة كما تخطف اللقمة من فم الأسد. لسنا في بحبوحة من
العيش ولا تتوفر بيئة إبداع تساعد على التفرغ. ولا يمكن حتى للأديب العربي أن
يعتبر ما يقوم به حرفة أو مهنة قائمة بذاتها، باستثناء أسماء قليلة حققت الانتشار
الذي يوفر لها رفاهية التفرغ للكتابة. لهذا السبب أتساءل باستمرار كيف يمكن إضافة
مدخل آخر لتوطين التجارب الأدبية وتسويقها بعيداً عن ضربات الحظ والمصادفات. هذا
الأمر بحاجة كما أرى إلى نص جيد أولاً ثم إلى جهود تسويق مؤسسي احترافي للمنتج
الأدبي يقوم على استثمار مساحة جغرافيا اللغة العربية والقارئ العابر للحدود. وأظن
أن الجوائز الكبرى بدأت تقوم بهذه المهمة جزئياً، ويتبقى حدوث نقلة كبرى في صناعة
النشر والتسويق برؤية مؤسسية متجاوزة للسائد ممثلاً بدور نشر صغيرة لم تخطط للتوسع
والاندماج.
عن إعلانك في أحد لقاءاتك الأخيرة عن موت اتحاد الأدباء والكتاب
اليمنيين بشكله القديم.. هل من الصواب انسحابه بهذه الطريقة من تناول الوضع الراهن..
أليس هذا انسحابا من دور المثقف الذي اعتدناه؟ وما الذي يجب أن تنتظره من اتحاد
الأدباء في شكله الجديد؟
أنا مع موت الشكل القديم لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لأنه كان
ضاغطاً على الدور النقابي الأساسي والمنتظر منه. يمكنني أن أطالب الاتحاد مستقبلا بتحديد
موقف من الأحداث السياسية، ولكن بعد أن يحل مشكلات أعضائه. لأن الاتجاه نحو إصدار
البيانات ذات الأفق السياسي فهو هروب من العمل النقابي وتهيئة مستمرة للاتحاد
ليبقى معرضاً لأطماع الأحزاب والقوى التي تريد تجيير مواقفه لصالحها. لذلك أقول إن
على الأديب أن يعبر عن موقفه بشكل فردي من خلال الكتابة. أما البيانات والمواقف
السياسية المباشرة فهذه عملية متروكة للأحزاب والأطر السياسية. يجب ترك الاتحاد لعمله
النقابي من أجل التفرغ للعناية بشؤون وأحوال أعضاء الاتحاد ومساعدتهم على تجاوز الأزمات
ومواجهة توحش الواقع والظروف المعيشية والصحية.. هذا هو الدور البديهي المنتظر من
أي عمل نقابي. هناك نقابات مهنية أخرى ناجحة في هذا الجانب لأنها تركز على التضامن
مع الأعضاء والعناية بأسرهم وتأمينهم صحياً وتجنيد الموارد والميزانيات لهذا الغرض،
فلماذا لا يكون هذا هو دور اتحاد الادباء بشكله الجديد الذي لم يولد بعد، وأتمنى
تحقيق إجماع حول تفعيل هذا البعد الذي هو أساس كل فعل نقابي ومهني. بل إنني أعتبر
الاهتمام بالشؤون الصحية والمعيشية لأعضاء الاتحاد مهمة يجب أن تسبق تمويل الندوات
والمطبوعات والمؤتمرات الأدبية التي تستنزف ميزانية الاتحاد وتنحرف به عن وظيفته
النقابية التضامنية. لأن الاتحاد ليس جهة إنتاج ونشر وطباعة، وهذا الدور الإنتاجي إن
كان لا بد منه فينبغي أن يكون مشروطاً بوجود وفرة مالية فائضة بعد استكمال الاتحاد
لواجباته النقابية تجاه منتسبيه.
بعد إعلان اتحاد أدباء الجنوب في السنوات السابقة.. هل هو إيذان
بالانفصال؟ وألا يعد هذا تنكرا لتاريخ هذه المؤسسة التي ولدت وحدوية؟
يرمي البعض إلى اعتباره كيانا مختلفا لا صلة له باتحاد الأدباء الذي
نعرف ألا نخدع أنفسنا بذلك؟
أين أنتم من كل هذا التشظي؟
حماية الوحدة اليمنية ليست مهمة اتحاد الادباء، لأنه مجرد كيان نقابي
لشريحة نخبوية لا يكاد صوتها يسمع، كما أن الاتحاد يتأثر بمحيطه العام وتنعكس عليه
كل المنعطفات التي تمر بها البلاد، ولا يمكن عزل أي نقابة أو تجمع مهني عن ظروف
الواقع وضغوطه. وبالتالي لا أستطيع أن أحاسب الأدباء في عدن أو أن ألومهم على
تشكيل كيان نقابي في ظل كمون أو تجميد الكيان المركزي لاتحاد الادباء ولا أعتبر أن
هذا الخطوة مقدمة انفصال. بل يجب أن تكون وحدة الاتحاد مسألة جاذبة ومفيدة للفروع
وكذلك وحدة البلاد يجب أن تكون جاذبة ومحققة لمصلحة الناس وتشعرهم أنهم شركاء
فاعلين فيها لكي تستمر وتمتلك مناعة ضد التشظي، لأن العواطف وحدها لا تكفي.
اعتقد أن الوحدة الثقافية لليمن أكبر وأشمل من الوحدة السياسية ومن
وحدة النقابات ومركزيتها. ولا يمكن أن تتعرض الوحدة الثقافية لأي شروخ أو تشرخها
ولادة كيان نقابي للأدباء في الجنوب أو الشرق أو الغرب، لأن اتحاد الأدباء ليس
مؤسسة سياسية، بل نقابة مهنية يجب أن تتصف بالمرونة بما يخدم الأعضاء. نحن نقرأ
الكتب ذاتها ونستمع إلى الأغاني ذاتها ونشعر بكينونة اليمن وثقافته المتنوعة
والغنية تسري في أرواحنا، لأن الوحدة الثقافية راسخة في الشعور الجمعي العام لكن الوحدة
الوطنية كقيمة تعرضت لأخطاء ارتكبها السياسيون الذين حولوها من فكرة مثالية حالمة
إلى غنيمة وهذا يجعلها تتحول مرة أخرى إلى خانة الحلم الذي يبدو أنه أجمل من
الواقع وأكثر صموداً.
إلا أنني أشفق على من ينشؤون كيانات مهنية لأهداف سياسية أو استجابة
لتوجهات، وهم بذلك يضعون أنفسهم وكيانهم في حالة ارتهان إذا كانوا مجرد صدى لخطاب
سياسي انفعالي. وفي نفس الوقت يجب عدم الحرص على منح المركزية قداسة مطلقة. وإذا
ما عاد نشاط اتحاد الأدباء يجب أن تكون للفروع صلاحيات وموارد وحرية أكبر في
الحركة. ما يتطلبه الواقع وما يلبي المصلحة ويخدم الأفراد يجب أن تكون له الأفضلية
على المستوى النقابي والاجتماعي والسياسي، بما في ذلك ما يتصل بوحدة البلاد التي
لا بد أن تكون محققة للمصلحة والمساواة والعدالة وهذا ما سيحميها ويضمن ديمومتها.
المثقف اليمني يعاني غيابا واضحا في المشهد الثقافي العربي فيما كان
في زمن مضى أحد أهم أركان المشهد الثقافي العربي.. لماذا حتى على مستوى الاشتغالات
الفردية يهجرون كل شيء.. هل يعاني من أزمة بسبب الراهن الثقيل نفسيا ومعيشيا أم
قطيعة لوسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الأدبية؟
أعتقد أن السباق خرج منذ فترة طويلة من كونه يدور بين المركز والهامش
أو على أساس قطري. أصبح الحضور عربياً بحاجة إلى منتج أدبي قابل للتداول وملبي
للشروط الجمالية الضرورية، ويتعزز حضوره من خلال الارتباط الاحترافي بالتسويق والطباعة
في دور نشر واسعة الانتشار وحاضرة في معارض الكتاب العربية وفي ترشيحات المسابقات
والجوائز الكبرى التي تساعد على تسويق الأسماء وترويجها في أوساط الجمهور. معنى
ذلك أن الدأب والنشاط ومحاولة اختراق الزحام بدون منتج أدبي منافس أمر لا يقدم ولا
يؤخر بقدر ما يحقق نوعاً من الحضور الرمزي الباهت. السباق الآن يتعلق بالانتقال من
الدائرة الغنائية الحالمة التي كانت تعتبر الكتابة نشاطاً محكوماً بالحالة
المزاجية للكاتب إلى دائرة الاحتراف والتراكم والإضافة الجديدة. وهذا يجعلني الآن
لا أشعر بمظلومية يمكن القول إن الأدب اليمني يعيشها، إلا بحدود الشكوى من نقص
إمكانات التسويق والطباعة الجيدة وورش الكتابة. لأن الإنتاج الأدبي الجيد أصبح يجد
طريقه إلى النشر والحضور بعكس الإنتاج الضعيف أو الذي ينقصه بذل جهد أكبر من
المؤلف، وفي هذه الحالة لم يعد الشعور بالظلم والتهميش متاحاً. بدليل وجود أسماء يمنية
تطبع في أشهر دور النشر ويمكن أن تلحق بها أسماء أخرى جديدة إذا ما احترفت الكتابة
وعملت على تلبية الحد المطلوب من معايير النشر الراسخة.
نحن في اليمن طبعنا أعمالاً أدبية في حقول الشعر والسرد والنقد ولا
نزال نطبع في الداخل بأشكال بدائية عبر وسطاء لا يشاركون ولا يوزعون الكتاب حتى في
الداخل نفسه. يكاد الروائيون أن يكونوا في المقدمة من حيث الحضور العربي وانتشار
عناوين أعمالهم وأسمائهم، ورغم ذلك لا تزال هناك أسماء محلية يندرج انتاجها السردي
ضمن السقف العالي للكتابة ولا يعرفهم القارئ العربي بسبب الطباعة المحدودة لأعمالهم.
وبالطبع لا يزال لدينا شعراء وكتاب يملكون إصدارات مطبوعة وأعمالاً مخطوطة لكنهم
خارج دائرة أضواء النقد والإعلام، مما يؤدي إلى استسلام الأغلبية لفكرة أن شهرة الأديب
تتطلب ضربة حظ وأنها ليست بذلك القدر من المكاسب، وهذا الاعتقاد يحول الكتابة إلى
هاجس فردي وإلى متعة شخصية لا يطلب صاحبها من الحياة شيئاً غير استمرار الشغف.
"فشلت في أن تصير ذئباً
لكن قفص الأرانب لم يكن أيضاً على مقاسك
الغابة تتسع لفوضى مبتكرة
وأنت خبأت في يقين الوحشة
حكمة العزلة".
في قراءتك للوضع الراهن ما الذي تريد بشدة كتابته ولم تكتبه بعد؟ هل
هو الحنين لزمن قريب تبخر أم تنبؤ لمستقبل مظلم قادم؟ كيف يرى الشاعر أحمد السلامي
القادم الثقافي في اليمن؟ هل من ضوء في نهاية النفق؟
كنا نختزل الحياة في الثقافة والنشر في أعمدة الصحف ومواقع الأنترنت،
ولم نلتفت لنقد العبث من حولنا إلى أن عم الخراب وانتشر. وبالتالي فإن الحديث عن
استشراف مستقبل الثقافة والإبداع في اليمن سابق لأوانه لأننا أصبحنا معنيين بالمواجهة
مع أسئلة كبرى تتعلق بوجودنا وسلامنا الأهلي وباستشراف مستقبل البلد برمته.
بالنسبة لي لم تعد القصيدة بتكثيفها الحاد تسعفني بقول كل ما أريده.
وفي الوقت ذاته لا أريد أن أسمح لنفسي بالانجرار إلى غواية المقالة السياسية
والتحليلات التي تتجه في غالبيتها إلى الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك! أريد أن أكتب
عن خلفيات الخراب لكي أفهمه أكثر وحتى لا نكرره عندما نتعافى منه. وأظنني أفعل ذلك
بطريقتي عبر كتابة لا تزال في طور الإنجاز، كما لجأت مثل غيري إلى الكتابة عبر وسائل
التواصل الاجتماعي ونشرت على فترات متقطعة مقالات سياسية ولا زلت أنشر بين فترة
وأخرى. جزء من الإشكالية في تصوري يكمن في أننا تركنا السياسة بشكل مطلق للسياسيين
وكان هذا الفصل الحاد بين الثقافي والسياسي خاطئ تماماً. كان يجب أن نرى الصورة
كلها كما هي. لأن الثقافة ليست ذلك التبويب الجامد في المجلات الأدبية التي تبدأ
بافتتاحية ثم قراءات نقدية ميتة ثم نصوص استقر شكلها الجديد حتى صار بدوره قديما وبدأ
يستنسخ نوعاً من الأداء الجماعي للإنشاد بحنجرة واحدة. هناك خلل لا بد من اكتشافه لنعيد
معه اكتشاف أنفسنا. لم يعد من الممكن القبول بهذا القطع الحاد والاختزال المخل للإبداع
في كونه المنتج الجمالي المعزول عن الواقع. ورغم كل شيء أرى أن الأزمات الحادة وإن
كانت قد كسرتنا إلا أنها ستكون في المستقبل مثل لقاح الوباء يجب أن تعلمنا كيف
نحمي أنفسنا من تفشي الخداع ومن الحروب وأشكال الكراهية. وأعتقد أن اليمن مثل غيرها
من الأقطار العربية المنكوبة عندما تتعافى مما هي فيه سوف تكون محصنة وإن كان
الوقت لا يزال مبكراً على التعافي المأمول.
سلطة المتلقي كما تصفها.. ألا يحول ذلك الأديب إلى فزاعة مفرغة؟ تتضح لكن لا تؤثر؟
كلا لأن سلطة المتلقي تعمل على إيقاظ الأديب من محبة عوالمه وتنقذه من
السقوط في النرجسية لتنقله إلى احتراف الكتابة والاهتمام بعوالم أوسع من الهاجس
التعبيري الذاتي. المتلقي الجيد الذي ينمو في عالمنا العربي بازدياد سوف يفك قيود
الكاتب ويحرره من أوهامه ليصبح في مستوى متلق جديد ومدهش تليق به النصوص الأكثر
ادهاشاً. لقد أثرت الاعمال المترجمة من الآداب العالمية على المتلقي وأصبح قارئ
اليوم متطلباً للغاية ولديه بدائل كثيرة ومتشعبة. لديه المكتبات الإلكترونية
بقديمها وجديدها ولديه التلفاز والمسلسلات والأفلام والسينما والأنترنت وخيارات
التسوق والترفيه اللامحدود. لذلك يتربع على سلطة تحرض المؤلف على أن يواكبها
ويرضيها. وهناك تبادل في الارتقاء بالذائقة يشترك فيه المتلقي والمبدع، في صياغة
صامتة لمشهد صار القارئ فيه شريكاً أساسياً غادر منطقة الهامش.
فيما أعلنت في أكثر من مناسبة رفضك الحاد مبدأ طباعة الأديب كتبه
بنفقته الخاصة وترفض دور النشر النشر له إلا من منطق تجاري بحت باتجاه منفعتها وحدها..
هل تعتقد أن النشر الإلكتروني يفي بالغرض؟ خصوصا والمتلقي الحديث من الجيل الجديد
لم يعد من محبي الورق؟
اعتقد أن علينا التوقف قليلا والتريث عن الشغف بتعليب المنتج الأدبي وتسويقه
بين غلافين لغرض المراكمة في الكم. أظن أن الكتاب الجيد سيجد طريقه إلى الطباعة. علينا
أولاً أن نؤلف العمل الذي يستحق أن نبحث له عن ناشر. أرى أعمالا لأدباء يمنيين في
حقل السرد تحمل شعارات دور نشر عريقة وواسعة الانتشار. أصحاب الكتب الرديئة
والضعيفة فنياً سوف يظلون بحاجة إلى الدفع مقابل طباعة أعمالهم. باستثناء حقل الشعر
لأنه يعاني في سوق الطباعة من التجاهل ومن ضعف التداول ويحتاج على دعم مؤسسي وإلى جهات
راعية يمكن أن تكون رسمية أو نقابية تخصص تمويلات لطباعة الأعمال الشعرية، لأن دور
النشر تركز على المبيعات وتفضل المغامرة بطباعة الكتب القابلة للتسويق. فأصبح
الشعر خارج حساباتها إلا ما ندر. ويمكن أن يكون الكتاب الإلكتروني بديلاً للطباعة.
لكن في الوقت ذاته سوف يسري على الكتاب الإلكتروني في المستقبل القريب ما يسري على
الكتاب الورقي. فكما لا يسعك أن تشغل فراغا في مكتبك الخاصة لكتاب لم يعجبك. لن
تشغل ذاكرة حاسوبك او هاتفك بكتاب إلكتروني غير جدير بالاحتفاظ. لذلك على مجتمع
الكتاب والمؤلفين التقدم أكثر في طريق احتراف الكتابة وتجويدها. ومع الوقت سوف ندرك
أن علينا التعامل مع الأدب بوصفه مثل أي منتج، وكما أن الجودة مطلوبة في كافة
المنتجات فإن الكاتب مطالب بمراعاة جوانب أدبية النص وجمالياته وكل ما يبقي عليه
في خانة الأدب.
قلت في كتابك "الكتابة
الجديدة - هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن "فيما يتعلق بتحديد علاقة شعراء
التسعينات في اليمن بسابقيهم نلاحظ ارتباكاً واضحاً في هذه الجزئية بحيث أن موقف
الأخذ بالقطيعة أو بالتواصل مع السابق لا يقوم في كلا الحالتين على وعي يؤسس
لمنطلقات التحديث، فالذين يمارسون الكتابة داخل الشكل العمودي يرفضون القطعية مع
أسلافهم ويواصلون اجترار الجماليات المستهلكة داخل العمود الشعري، في حين تأخذ
طائفة أخرى بالموقفين معاً بدون امتلاك الوعي الذي يتساءل عن جدوى اتخاذ موقف معين
تجاه تجربة السابق."
كيف يمكننا أن نسقط المقطوعة أعلاه على الراهن اليمني خصوصا بعد ظهور
الجيل الألفيني؟
هذا الرأي من كتابي الذي صدر في العام 2003 وحسب متابعتي لم يحدث تغير
كبير لدى الأغلبية. لا تزال الكتابة لدى كثيرين مساحة نشاط ضمن هاجس شخصي غير معني
بالتموضع داخل سياق الاشتغال الأكثر حداثة، ولا أحد يهتم ببحث سقف التجريب السائد
ومواكبة الاشتغالات الجديدة في المشاهد الأخرى.
أعني أن جانب من الواقع يشهد ركود الكتابة في خانة الهواية المدفوعة
باستحلاب إعجاب المقربين، وحالياً أصبح البعض يبتهج بحصد الإعجابات على صفحات
مواقع التواصل الاجتماعي كأعلى سقف توصل إليه، وكما نعلم فإن جمهور هذا النوع من
الأدوات شعبوي ويمكن ان يسحب الكاتب إلى الأسفل لكي يتواءم مع القطاع العريض الذي
يفضل الصياغات المباشرة والتعبيرات السطحية سهلة التداول. هناك أسماء قليلة بالطبع
استطاعت أن تغادر محطة الكتابة التي يعتبرها البعض مجرد وظيفة مهمتها اشباع رغبة
صاحبها في البوح. لكن ما من تسويق ولا نقد قائم على دراسة تطور النص. ومع ذلك لا
أقول إن التجريب وتحديث النص غاية بل وسيلة لمنح الكتابة طاقة جديدة حتى لا تتحول النصوص
إلى جثث مكررة. هناك أسماء تضع اعتبارا للاختلاف وتتحدى نفسها. لكن المحاذير
والمطبات والمغريات التي تحرض على الوقوع في شكل آخر من النمطية والاجترار تهدد
طائفة منهم. وتكمن الخطورة في اعتبار الكتابة بمختلف أجناسها مجرد حالة من التنفيس
عن الذات. هذه فقط إحدى مهامها لكنها ليست كل شيء بالنسبة للكاتب المحترف الذي
يخشى أن يكرر ذاته.
هل تعتقد بأن الجيل الحالي بتجربته الراهنة في ظل غياب ما يمكن أن
نسميها بالبوصلة يمكن أن يقدم شيئا عربيا وعالميا؟ إلى أي مدى يمكننا أن نأمل؟
اختلف مع الشعور باليأس في صيغة السؤال. عندما نتابع المشاهد الأخرى
نجدها مثل المشهد اليمني تعج بتجارب متفاوتة وليست كلها مالكة لبوصلة تحدد وجهة
النص وسقف الكتابة. التجاوز والاختلاف يظل ثمرة دأب فردي في كل المشاهد العربية.
سواء في الشعر أو السرد. وأتوقع ان أقرب فسحة للاستقرار في اليمن مع توفر استقلال
المبدع وعدم احتياجه لتأجير وقته من أجل كسب لقمة العيش كفيلة بتهيئة مبدعين لإنتاج
نصوص عالية المستوى.
ربما علينا الكف عن الشعور باننا في حالة سباق أو منافسة باسم بلد أو
وجهة جغرافية فنحن نكتب بلغة عربية واحدة وهذا ما لا يخطر على أذهان الكثيرين. عامل
اللغة الواحدة التي نكتب بها في مساحة شاسعة تجعلنا معنيين بالتجويد باسم اللغة
ذاتها وداخلها وليس باسم بلداننا. حتى داخل البلد الواحد لا توجد كتلة أسماء أدبية
متجانسة. نحن في اليمن أيضاً لسنا كتلة أدبية واحدة تسابق كتلاً أخرى متجانسة في
المحيط العربي. حديث الأجيال والمشاهد الأدبية العربية المغلقة انتهى. نحن امام
أسماء تكتب بالعربية. وأنا في النهاية معني بالرواية الجيدة والقصيدة المدهشة سواء
كتبها مغربي، أو عراقي، أو خليجي، أو مصري أو من بلاد الشام. لدينا كتاب من اليمن
استطاعوا تكوين جمهور قراء يتعاملون مع الكاتب بمعزل عن بطاقة هويته. كل
الاشتغالات الأدبية الناجحة أجد أن تميزها محمول على أكتاف صاحبها وليس على مشهده
القطري. فالروائي المصري الناجح اكتسب نجاحه باشتغاله وليس بمصريته. مع وضع اعتبار
للتسويق الجيد وجغرافيا التوزيع وانتظام تقاليد جديدة مثل أندية القراءة التي بدأت
ترسم علاقة ممتازة بين الكتاب الجديد والقارئ بعيدا عن جنسية المؤلف. لقد انفتح
المشهد قرائياً ولم نعد جزيرة معزولة من حيث تلقي تجارب الآخرين ومجاراتها.
بعد هجرتك إلى الإمارات العربية المتحدة.. هل لا يزال قلبك في مكانه؟
أم أن البعد يهزم كل شيء في كيان الشاعر؟
لم أهاجر بالمعنى الجوهري للكلمة ولم أستوطن وأستقر بشكل يجعلني ذلك الغريب
البعيد عن وطنه. كما أن الايحاءات الرومانسية التي كان المهجر التقليدي يولدها لم
تعد بذلك الزخم في هذا العصر. ربما لو كنت ذهبت إلى أوروبا حيث يمكن اكتساب هوية
جديدة كان الأمر حينها سيختلف وكنت سأحكي لنفسي عن أنني وقعت بالفعل في مواجهة
مباشرة مع تبعات الهجرة والاغتراب. أما إقامة العمل في الإمارات فإنها تجعلني كما
لو أنني في رحلة مؤقتة. إضافة إلى أن وجودي في الجزيرة العربية لا يشعرني أنني
غادرت اليمن إلى مسافة أبعد. هناك تأثير الحرب الذي يجعل بلدك تحت مجهر الروح
باستمرار. تجعلني مواكبة الألم في بلدي أعود إليه كل يوم لذلك لا أشعر أننني
غادرت. واشتغل حالياً على نص طويل يتيح لي التجول عن بعد في اليمن إلى حد الشعور
بتقلبات فصولها، ولهجات أهلها، ومواسم أفراحهم، وأحزانهم.
*كان من المقرر أن ينشر هذا الحوار في 2022 بإحدى الصحف الكويتية، ولأسباب
إدارية وفنية تعذر النشر.
تعليقات
إرسال تعليق