عن ديوان "حياة بلا باب" في دراسة لعهد فاضل

 

عهد فاضل*

 

الشاعر أحمد السلامي في “حياة بلا باب”، غامر في طول نسبي للقصيدة، وهو اقتراح قد يفيد زيادة الربط الممكنة بين الشاعر وأسلافه. نسيانه، هنا، نسيان لسياق التغير في الكتابة، ممثلة شيئاً من المعارضة لمثيلاتها، سواء في الجيل الأدبي، أو الشخصية الشعرية. الثورة على الثورة لا تحتكر في الاجتماع السياسي، وحسب، بل في الاجتماع الشعري، إن أراد القائل دمج مفاتيح الاجتماعين، بعضهما بالبعض الآخر.

الهدوء الظاهري الذي يسم لغة الكتاب ما هو إلا محاولة لتزيين الابن بصفات الأب، ليس لأن الابن – المجازي – تضجر من إبنيته، بل لأن موقفاً أدبياً ما يختبئ في السطور، فتبدو الجملة هادئة، في الوقت الذي تتضمن جدلاً حاسماً: “يسكرون بالضجيج/ لا يبالون بسمعك الرهيف/ يكسرون عاداتك/ وبلا أسف يضحكون/ لا شيء يستحق الحركة/ ولا أحد كذلك”. ضجيج الأبناء السعداء باكتشاف إبنيتهم ليس مصدره الحسم النهائي للوراثة وتسيُّد الواقع، بل مصدره ارتباكٌ مفترض، يُجمع عليه الجدد أنفسهم، بأن على المتمرد ألا يخلو بالكامل من مزايا المتمرَّد عليه: “لم أكن أعرف أنني وحيد لهذه الدرجة/ وحيد خيالات أبسطها أن أطير/ وحيد رغبات ألحّها الهدوء/ كل شيء يصرخ في وجهي بصمت/ ينبهني الى العزلة”. ضمير المتكلم، هنا، وفي هذا الإيقاع السردي، لا يحقق الانطباع بالحميمية وحسب، ولكن فيه نسياناً للنسيان الحالي، حيث كثير من الأنوات الشعرية باتت تتعامل بعنف مع الأنا المتعالية، وتطرح نفسها المتمرد المطلق المناقض، لنراها في كثير من الأحيان في شك من ذاتيتها. الشاعر السلامي يتخذ الموقف المطالب بوراثة المتمرد للمتمرَّد عليه، وإلا ستكون الأنا حقلاً سهل العبور لحركة الآخر: “لا أحد، هنا يشبه نفسه (مطالبة علنية بعودة منتصرة للأنا)/ كل شيء عاد جديداً /كأن انخداعي بالأشياء يبليها/ السذاجة تصدق الحواس/ وثمة حاسة معطلة استيقظت للتو”. مغامرة السلامي في طول القصيدة، جاءت متوازية مع المزج بين أنا التعالي وأنا النسبي، وليس التنامي الذي ينتج من مثل هذه العلاقات إلا الاستجابة العفوية لهذا الصراع. وعندما نتحصل على طول نسبي للقصيدة، لديه، نضمن أن نوعاً من البلاغة تم تجاوزه، في هذه الكتابة. أي أنه يَرِث في مكان، ويثور في مكان. كل شروط الحس الدرامي توافرت، إذاً، وبلا تردد: “الصفر خصمٌ لحياد العبث ونقطة من عرق البداية/ العالم يلعب شوطاً طويل اليأس/ والحجرة ضيقة/ على رغم أنها بلا جدران”. لكن نسيان البلاغة لا يلبث أن يستحضر المنسي نفسه، ليأخذ الكل صفات الكل، في مثل صورة أخّاذة كتلك: “منشار الفجر يقترب”. كل احتمالات تفعيل دور الصراع، الكامن والظاهر، يوفرها السلامي، ومجرد تعزيز الصراع، كمرجع تقني للمعنى، يؤكد نسيان النسيان الذي يعمل عليه. فثروة الأب تُنفق بلا طائل، والأبناء يضيعون الوقت: “أريد الصمت الذي في نومهم/ ينامون/ وحبال أصواتهم تتلوى خارج الغرف”.

الحس الدرامي، ذاك، يعبر عنه في أكثر من مصدر، عادة، في الشعر، صراع الخير والشر، البطولة والهزيمة، المرئي واللامرئي، وكل الثنائيات التي تتكفل النقض في ما بينها. ولكن هناك أشكالاً أكثر بساطة وأكثر حميمية تنقل هذا الحس الدرامي الى واجهة الاجتماع، والهدف هو هو، نسيانٌ للعلاقة، منتهياً الى نوع من الحلول والتسويات التي تكفل التوازن الموقت.

إذا كان طول القصيدة مكاناً صالحاً للبحث في الحس الدرامي، فإن التكثيف والاختصار ينطويان على أكثر من دلالة. فهما ممكنا الحضور في القصيدة الطويلة، أيضاً، لأن التكثيف، في النهاية، مسألة نوعية أكثر مما هو مسألة كمّية. لكن القصيدة القصيرة تزيد من “خطورة” الأثر الناجم عن تجاهل التكثيف، ففيها ينكشف الصوغ غير المكثف بسرعة وعنف، ما يترك انطباعاً بأن خللاً ما يتوزع هنا وهناك. ويتخذ التكثيف مسافة واحدة من كل الأطراف، فالكل يجب أن يستخدمه وينجح في صوغه. التكثيف، كاللغة، مادة الكتابة.

*مقتطف من دارسة طويلة نشرها الناقد عهد فاضل بعنوان "شعراء يمنيون جدد توحّدهم لعبة النسيان والوجود".

 

تعليقات

المشاركات الشائعة