الكتابة وسيلة للنجاة من العزلة
أحمد السلامي*
هناك قلة من الأدباء عندما يقررون انتهاج استراتيجية أخرى في الكتابة تختلف عن السائد في محيطهم، تصبح الانتقالات التي يؤسسون لها في كتاباتهم علامة فارقة تفصل بين مرحلة قديمة وأخرى جديدة، ليس في مسيرتهم الأدبية الفردية فحسب، بل على مستوى الساحة الإبداعية التي شهدت انطلاق تجاربهم.
وأحسب أن الروائي اليمني علي المقري
أحد هؤلاء، إذ يمكن الاستشهاد بتجربته في خوض مغامرة الكتابة الروائية، بوصفها
تحولاً ارتفع بسقف الكتابة السردية في اليمن إلى أفق جديد، أتاح للرواية التي
تُكتب في اليمن أن تُقرأ داخل سياق التلقي العربي.
تجد في تجربته ما يحرض قارئ وكاتب
الرواية في اليمن على اتخاذ الجغرافيا المحلية أو بيئة الكتابة متناً للخطاب
الروائي وقضاياه، فيما تقنيات السرد صارت معنية بالاحتكام إلى جماليات الكتابة من
منظور أفق التلقي الواسع والمشرع على خريطة تتجاوز بيئة إنتاج النص.
وبوسع من يواكب مشهد الإبداع في اليمن،
سواء من داخله أو من خارجه، أن يرصد الرحلة الاستثنائية التي يمضي فيها مشروع
المقري، وهي رحلة فيها قدر كبير من تبلور منظور للكتابة لا يرتهن لنماذج ظلّت وفية
لتقوقع النص في مساحة قراءة محلية ضيقة، كانت لها مفاتيحها وخطابها الزاهد عن
التطلع إلى التماهي مع منجز السرد في المراكز العربية الأخرى.
وعبر السرد المحترف وحده، أثبت المقري
مرة أخرى، كما فعل غيره من الكتاب المحترفين، أن بإمكان الكتابة الجيدة أن تصل،
وأن ثنائية المركز والهامش مجرد وهم، ويمكن أن يسقطها الكاتب عندما ينجز أعمالاً
توازن بين جماليات الكتابة وسقف الإبداع العالي، وبين مقاربة موضوعات لا تفقدها
محليتها ميزة خلق مشترك إنساني مع القارئ في كل مكان.
أعاد المقري إثبات حقيقة راسخة في
الفن، لكن البعض يغفلون عنها، ومفادها أن القفز على الخصوصية المحلية من حيث موضوع
النص الروائي واشتغاله على قضايا ذات ارتباط وثيق ببيئة الكاتب ومشاهداته؛ ليس
شرطاً ليحقق الكاتب حضوره، بقدر ما هو مطالب بإتقان حرفته والوعي بقضايا زمنه وبكل
ما هو جوهري وإنساني في كل العصور.
هكذا استطاع صاحب رواية "طعم أسود
رائحة سوداء" أن يكرس حضوره بمشروعه الروائي كما لم يحدث مع أي كاتب يمني من
جيله، وربما من الأجيال التي سبقته. وسيمتد أثر التحول الذي أحدثه في الرواية إلى
مشهد الكتابة في اليمن، لأنه تحول يتصل بجهد الكاتب ودأبه في الانتقال بالسرد على
المستويين الفني والموضوعي إلى مرحلة أكثر احترافية، حيث نجده يتقصد انتقاء
موضوعات أعماله وأساليب سردها، ليمنحها قابلية التلقي بمقاييس عابرة لتوقعات
القارئ المحلي وأولوياته ونماذجه الراسخة.
أنطلق المقري في مغامرته مع الرواية من
بيئة يمنية ظلّ الانتماء فيها إلى نخبة الأدباء والمبدعين مؤشراً على الانخراط في
حالة من النضال والكفاح بالكلمة، وذلك ما تسبب لعقود طويلة في ركود الأدب والتجارب
الإبداعية الفردية، في مجتمع لم يشهد فترات استقرار سياسي واجتماعي تساعد على ازدهار
واستهلاك الفنون والآداب والاستمتاع بها إنتاجاً وتلقياً، بعيداً عن تحميلها أو
تحميل مبدعيها مشقة أداء أدوار نضالية ذات مرجعيات أيديولوجية متباينة.
تلك المهمات النضالية للمبدع وما كان
يتوقعه منه رفاقه ومجتمعه، كانت بالضرورة تأتي على حساب تطور الكتابة الإبداعية
شعراً وسرداً، ناهيك عن جناية الأيديولوجيا على تأطير خيارات البعض، وبالتالي
تضاؤل مساحة المغامرة والجرأة على التجديد في الكتابة ومقاربة موضوعات تخلق
مشتركاً مع القارئ، بدلاً من تجنيد النص لأداء وظائف غنائية أو سياسية مباشرة.
وما من اسم أدبي في اليمن إلا وله صلة
من نوع ما بهذه الحالة النضالية متعددة الأوجه والمرجعيات الأيديولوجية، إلى حد
أننا شهدنا رحيل أسماء تصنف ضمن الرموز الكبيرة التي كانت لها صولات وجولات في
الحياة الثقافية، ولم تصدر لهم أعمالاً مطبوعة توازي حضورهم الطاغي في الوسط
الأدبي، وعلى منصات المهرجانات والمؤتمرات الأدبية، ومنهم من كانوا من أوائل
المؤسسين لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، لكن تركيزهم على المثاقفة الشفاهية
وتشتت اهتماماتهم جعلهم يرحلون دون أن يتركوا أثراً مطبوعاً.
ولا ننسى تأثير العزلة التي عانتها
اليمن وأعاقت اتصال مبدعيها بالحراك الثقافي العربي في ذروة التحولات التي شهدها
النصف الثاني من القرن العشرين، باستثناء اجتهادات فردية وفرص قليلة أتيحت للبعض
ممن سافروا للدراسة خارج اليمن، أو ساعدتهم الطباعة المنتظمة لأعمالهم في دور
النشر العربية على تحقيق حضور واسع، مثل الراحلين الكبيرين عبدالله البردوني
وعبدالعزيز المقالح.
وباستثناء هذين الاسمين (البردوني
والمقالح) كان من النادر أن يتعرف القارئ العربي إلى نتاج أديب يمني، فيما نجح
الأديب علي المقري في الوصول إلى مساحة واسعة من القراء، رغم أن أعماله الروائية
صدرت في لحظة سيولة أدبية، وفي سنوات ازدهرت فيها الرواية العربية والترجمات،
إضافةً إلى غزارة الإصدارات وارتفاع ذائقة القارئ وبحثه عن النصوص الروائية التي
تغريه بقراءتها، ومع ذلك تمكن المقري من الحضور في المشهد، وحظيت رواياته بالترجمة
والتلقي الواسع، وصدرت من بعض عناوينه عدة طبعات، وتبعته أو تزامنت معه بعض
الأسماء اليمنية التي وجدت في طباعة أعمالها في دور نشر خارج اليمن فرصة للتواصل
مع المحيط العربي الكبير.
وأستطيع القول كمتابع أن ما حققته
تجربة علي المقري السردية يعتبر أمراً جديداً ومبهجاً، من جهة الإسهام في اختراق
جدار العزلة الذي يحد من التعرف إلى إنتاج الأدباء اليمنيين، بالتوازي مع الأسماء
الأخرى التي نجحت في تسجيل حضورها في عالم الرواية وحظي أصحابها إما بجوائز عربية
أو بقراءات ومتابعات نقدية غير مسبوقة.
لكن تجربة المقري تبقى مختلفة، وتبدو
كما لو أنها كانت نتاج انعطافة مدروسة بعناية وانتقال من الشعر والكتابة للصحافة
الثقافية إلى عالم الرواية وبحرفية عالية، مرّ خلالها بجسور متوالية من القراءة
والبحث والكتابة، إلى أن فاجأ القُراء برواياته الخمس التي توالت في الصدور: طعم
أسود.. رائحة سوداء، 2009، اليهودي
الحالي، 2011، حرمة في 2011، بخور عدني في 2014، وبلاد القائد، في عام 2019.
وللبعد الإنساني في علاقات المقري
وصداقاته شواهد عديدة، إذ تجده يُعرّفك على أصدقاء له من كل محافظات اليمن بمختلف
جهاتها ولهجاتها، وأنا ابن ريف صنعاء والأقرب إلى المحافظات المجاورة لها عرّفني
المقري ذات مرة على شاعر من محافظة "حجّة" هو عبدالرحمن غيلان، وأسماء
أخرى، وعندما كنت ألتقيه في صنعاء كنت أصادف برفقته كما في أحاديثه أسماء من كل
مكان وعناوين كتب من التراث وسير أعلام ومفكرين لا يمكن أن يستحضرهم إلا كاتب
متحرر من الانحياز للأيديولوجيات والتوصيفات الضيقة، وأحسب أن الكتابة بالنسبة له
وسيلة للنجاة من العزلة والتحرر من كافة قيود الأيديولوجيا.
حاور المقري الشاعر الراحل عبدالله
البردوني وعمل عن قرب مع الراحل الدكتور عبدالعزيز المقالح عندما كان في هيئة
تحرير مجلة غيمان، وعاصر الكبار من مختلف الأجيال خلال عمله النقابي في اتحاد
الادباء، وخلال عمله محررًا ثقافيا أو مراسلاً محترفا للملاحق والمجلات الثقافية
العربية كانت تغطياته ومقالاته تواكب كل جديد.
وفتح علي المقري في أعماله الروائية
ملفات وقضايا المرأة والحب والمهمشين والحرية والديكتاتورية وسيرة الأمكنة
والتعايش والعلاقات الإنسانية العابرة للأديان والمذاهب، والأهم من اختياراته
لموضوعات أعماله أنه قرر أن يجعل من الكتابة جوازاً للعبور والتواصل مع الآخر،
وأدرك أن التحقق الأدبي الراسخ لا يتأتى للكاتب إلا بقدر ما ينجزه على مستوى فن
الكتابة وفن التواصل مع القراء.
*مساهمة في ملف نشرته مجلة "الأهرام العربي" في يوليو 2023 عن الكاتب اليمني علي المقري.
تعليقات
إرسال تعليق