«أجواء مباحة» لأحمد السلامي واقع متداعٍ يتجه نحو الهاوية

 



سهير السمان - كاتبة يمنية

 

من حادثة مقتل «هدية وبناتها الثلاث» بإحدى غارات طائرات الدرونز الأميركية، ينطلق الأخ المفجوع (عامر) رحلته من صنعاء إلى قريته «صدر الجبل» ليصل بعد أن دفن أهل القرية عائلته، وتبدأ معاناته في محاولاته لتحقيق العدالة عبر نشره التحقيقات الصحفية في جريدة الصوت العالي، لمحاسبة الحكومة ومنحها الترخيص لمنظومة مكافحة الإرهاب وأميركا استباحة أجواء البلد؛ مما يتسبب ذلك في اعتقاله من أمن الدولة، ولكنه حين يخرج يكون قد وقّع تعهدًا بعدم نشر أي من المواد الصحفية بخصوص هذه القضية.

 

يحاول عامر أن يستجمع شتات نفسه ويقرر إعادة بناء بيت الأسرة في القرية؛ لكيلا ينقطع الحبل السري الذي يربطه بوجوده. ويهبط البطل من الأجواء إلى أرض الواقع ليكشف لنا ما تحت تلك الأجواء المباحة لواقع أكثر مرارة، تدور فيه الشخصيات بين جناة وضحايا، في مستوى ورؤية سردية واحدة لسارد هو البطل (عامر) الناقل للأحداث بين الحاضر والماضي، والعليم بما يحدث وما سيقال، ولسان الشخصيات، والمتأمل والراصد، ويتنقل مستوى السرد من راوٍ خارجي إلى راوٍ داخلي فينشأ بذلك المونولوج ليضفي أبعادًا للحدث الرئيس.

 

وعلى الرغم من ذلك تتشابك الشخصيات وتحقق جدلًا دراميًّا، فرئيس التحرير الكوكبي أراد من تحقيقات عامر ترويجًا لصحيفته، لا إيمانًا بقضية مقتل الأبرياء، في الوقت الذي يخضع فيه أيضًا لإيقاف كل التحقيقات التي تمس سمعة الحكومة والمسؤولين، بل يتبرأ من كل ما نشره عامر في بيانات أصدرتها الصحيفة بعد توقيف رئيس التحرير.

 

جدلية الشخصيات

يقع البطل عامر وهو الصحفي المهني بين دائرة من الشخصيات تتقاطع مصايرها بشكل مأساوي، هدية وبناتها وزوجها الإرهابي سهيل أبو سرة، أخته نجمة وزوجها جميل أحد أعضاء لجان الأمن المواجهة للإرهاب وهو شخصية فاسدة، الكوكبي رئيس تحرير صحيفة الصوت العالي، المتحذلق والانتهازي، صديقه نادر الدب أحد الصحفيين المستقيلين من الصحيفة، وصديقه قادري سكرتير مسؤول مكافحة الإرهاب في السفارة الأميركية، الأمرط أحد مجندي العملية في القرية، خاله «أمين بارع» الذي كان ملحقًا عسكريًّا في أكثر من بلد أجنبي والذي رتب العديد من صفقات السلاح خلال فترات عمله، وابتز النظام بعد تقاعده نظير صمته عن تلك الصفقات.

شبكة من العلاقات شكلت بنية العمل الروائي ليكشف الستار عن واقع سياسي واجتماعي متداعٍ، يتجه نحو الهاوية. يقف عامر في قلب تلك الشبكة محاصرًا وفي وضع لا يملك أن يجاري فيه كل تلك التعقيدات.

 

ودون تدخل منه تسير الأحداث نحو نهاية بعض تلك الشخصيات، الأمرط الذي جنّده جميل زوج نجمة، أخت عامر الصغرى، ليضع شريحة التتبع في صندوق البرتقال الذي اعتاد سهيل أخذه لأسرته في صدر الجبل، وكان سببًا في مقتل أخت عامر وبناتها، فتأتي نهايته في بلد أجنبي بعد هروبه عقب الحادث، ويُقتل ابنه في القرية على يد الإرهابي سهيل في حادث مدبر، ويعتقل جميل في إحدى العمليات ضد أنصار الجهاد.

 

كشفت الرواية عن الواقع المتناقض لمجتمع صنعاء، ربما حفلة السفارة الفرنسية كانت الحدث الذي أظهر وجه ذلك التناقض، فالجانب المحافظ من المدعوين لا يمتنع من أن يعقد صفقات مشبوهة، كذلك المنظمات الحقوقية، تسعى للتمويل الخارجي وفي الوقت نفسه الذي تدعي فيه الدفاع عن حقوق المواطن تصمت وتتستر على العديد من الحروب والمآسي العاصفة التي تعصف بحياة الناس.

جمعت هذه الحفلة الأطراف الخارجية والداخلية ممن كان لهم الدور في استباحة أجواء البلد، مسؤولي وزارة الدفاع والملحق التجاري الأميركي، وكانت الصاعقة هي علاقة صديقه قادري بملف الإرهاب.

حملت نهاية الرواية بعدًا رمزيًّا عبر بدقة عن دناءة ما كان يقوم به قادري، «لابد أن تلك الأوراق التي يتصفحها امام عيني تضم أسماء الأهداف الجديدة، والمواقع التي ستوزع الدرونز ضرباتها القاتلة عليها».

ظهر قادري كمجاري صرف للقاذورات، حين قام عامر وأفرغ كل ما في جوفه على حقيبة قادري الدبلوماسية وعلى وجهه، فالروائي بهذه النهاية استطاع أن يعبر عن مدى ألم الروح الذي فاض، ليختفي بعده مذاق الرماد الذي في جوفه كما وصفه. نهاية تعكس البعد الإنساني الرافض لمنظر الدماء، وقتل البشر، كان من السهل أن يقتل عامر قادري انتقامًا، ولكنه كان يأبى أن ينتهج نهج الدم.

لم تكن الرواية نقدًا للسياسة وهواميرها ممن يعبثون بمصاير الناس فقط، بل تسليطًا مهمًّا للذات التواقة للتحرر من نظام اجتماعي شكل النواة الرئيسة لنشوء ذلك التناقض في حياة الإنسان اليمني، يقول البطل: «لا يزال الإنسان يولد وفي فمه ملعقة من قبيلة وعائلة ولا تنقذنا سوى حياة أخرى سرية نعيشها في دواخلنا»، يقودنا كثير من الرؤى المحملة في العمل نحو التحليل السوسيولوجي، لمجتمع محاط بكثير من الأسوار، ولكنه لا يتورع أن يكون فاسدًا ولصًّا.

 

طقس العبور

في هذا المحور سأركز سريعًا على تقنيتين في العمل، وهما طقس العبور والكولاج، يقول مرسيا إلياد: «يولد العالم من مركز، يمتد من نقطة مركزية هي منه كالسرة». من هنا، تأخذنا رواية السلامي لتقنية مهمة حفلت بها الدراسات الأنثروبولوجية، واستعارها عالم السرد في تحليلها للنصوص الشعبية، وهي طقس العبور. فطقوس العبور هي عتبة لا بد أن يتجاوزها الفرد، مرحلة انتقالية من موقع اجتماعي أو سياسي أو ديني… إلى موقع آخر، وتؤدي بذلك وظيفة التفسير، والتوازن للتوترات الداخلية والخارجية، سواء للفرد أو الجماعة. ونجدها هنا في الرواية: طقس انتقال فكري، ووجداني للبطل (عامر) وطقس العبور من الحياة إلى الموت.

تبدأ رحلة عبوره بمشاعر اختلفت عن المعتاد لديه حين كان يتجه لقريته، التي طالما شكلت القرية في السرد الروائي اليمني مركز الوجود. هنا يعد المنزل الذي تناثرت أشلاؤه في القرية مركزًا لوجود العائلة الممتد، والحبل السري الذي يربط عامر بالأصل. «برحيلهن فقدت الإحساس بالفرق بين الحياة والموت واحتوتني رغبة الطفو في اللامكان».

تحولات العبور نتيجة مقتل أخته وبناتها، وانهيار البيت، وتحوله إلى كومة من الحجارة، غيّر فضاء العبور المعتاد نحو القرية سرة الوجود «نهبط سلسلة منحنيات مثل ثعبان أسود يخترق بطون جبال وحواف صخرية شاهقة».

لم يكن ذلك العبور ماديًّا بين رحلتين تكررت فتراتها الزمنية، بل انتقالًا معنويًّا تغير فيها البطل تمامًا بعد الحادثة الأخيرة، مما أضاف بعدًا نفسيًّا للشخصية، وأتاح للذاتي أن يتسلل عبر البوح، وطرح الرؤى الفلسفية والوجودية.

 

الكولاج

استخدم الكاتب تقنية الكولاج في خطابه الروائي وهو من التقنيات الحديثة يمكن أن يضطلع بوظائف سردية أساسية في صلب الخطاب، وقد تكون النصوص الملصقة في النص السردي قصة فرعية تحيط بالقصة الأصلية، وقد تسهم في تنويع زوايا السرد، وتكسير خطيّته، وتشظية القصة الأم إلى قصص فرعية متعددة متكاثرة. ويمكن للكولاج، أيضًا، أن يضطلع بدور مهم في إنشاء دلالات النص، وتوجيه القراءة التأويلية. تقوم النصوص الملصقة مقام التفسير للنص التخييلي والتعليق عليه. وقد تجمعها به علاقة المفارقة والمنافرة، وفي استخدامه في عمل السلامي نراه يزاوج بين وحدات السرد القصصي ووحدات التوثيق الصحفي، حيث استخدم السلامي أكثر من مرة التعزية في صحيفة، وبيان، ومقابلة صحفية، جزء من مقال، ومذكرات، ورسائل، وأغانٍ. كان استخدام الكولاج السردي موازيًا للحكاية، وهو ما يجعل نص الحكاية يتناص مع سرديات أخرى أضافت أبعادًا فنية لتعميق واقعية الحدث.

الرواية سردية لمرحلة أباحت البلد لمعترك دولي تمتد آثاره إلى الآن، وكشف لواقع اجتماعي مترهل ومُتشظٍّ لا يمتلك حماية ذاتية.

 

المصدر: مجلة الفيصل | مايو 1, 2025


تعليقات

المشاركات الشائعة