شهادة: أن تكتب رواية عن سماء اليمن المستباحة وعن وطن يُستعاد بالسرد

أحمد السلامي

 


كانت الرغبة في التحليق والطيران أول ما شغل مخيلتي، وللشعور بفقدان ثقل الجسد في الهواء رحت أحول المدرجات الزراعية تحت قدمي إلى سلالم عريضة أطويها بالقفز من أعلى مدرج في المنحدر المطل على قريتي، حتى آخر جدار وآخر مستقر لقدمي طائر من دون جناحين كان يعالج حنينه إلى التحليق بالقفز مغمض العينين.

في أوائل الثمانينيات كنت أطل على العالم من نافذة الدار بقريتي الجبلية، أحصي جدران المدرجات الزراعية التي أدمنت تسلقها حتى أعلى مدرج ترتطم فيه الريح بوجهي وأنا أحلم بالقفز فوق رؤوس الجبال هرباً إلى البعيد، لأحصي المشاهد التي اختزنها في الذاكرة، أرتبها كما لو أنها مقتنيات قابلة للاستعادة بحاسة أخرى، سأعرف لاحقاً أنها الكتابة.

غادرت اليمن منذ العام 2014، وبعد عشر سنوات قررت العودة ليس بالجسد، ولكن بالكتابة والتحليق بأجنحة السرد، فكانت رواية "أجواء مباحة" رحلة للتعافي من مرارة الغياب وسفرًا في أمكنة أليفة وتصفية حساب مع ما شهدته البلاد من الوجع الذي تخلفه الحروب العمياء والمستمرة دون أن يحصي ضحاياها أحد.

بدأت كتابة الرواية عام 2020، ولم تصدر إلا في نهاية 2024، فبقيت أربع سنوات في طور الكتابة والتنقيح على فترات زمنية تختلف بين مراجعة وأخرى تليها، وفي كل مرة كنت أعود إلى العمل على النص بوعي مختلف واستعداد نفسي للهدم والبناء. وما بين تمزيق صفحات هنا ومحو سطور ومشاهد هناك وإضافة أخرى جديدة، كانت المسودات الأولى تكبر مثل حياة لها شخوصها وعالمها.

بين الشعر والسرد

في العلاقة بالشعر كنت على وعي أكيد بالمنزلقات التي يمكن أن يقع فيها السارد، حملت معي مخاوفي من أن يحضر الشعر بوفرة داخل الرواية، واستعنت بكوني قارئاً للرواية، ففي مكتبتي أينما ذهبت تحتل الرواية المساحة الأكبر. هذا الشغف بالقراءة يساعد على التفريق بين الأجناس الأدبية، وأعرف أن عدة الشاعر قد تكون عبئاً على السرد، لأن معمار الرواية يطمع في أن ينمو، أما الاستسلام لغواية الشعر فإنه قد يسحبك إلى إغراء الاستسلام لتدفق مجازات لغوية على حساب المضي قدماً. بدافع من هذا الوعي استطعت أن أتجنب مزالق الشعر المغوية وإغراءات التداعي والانقياد لسحر الكلمات، دون أن أجهد نفسي في استبعاد الشاعر، لأن لغة السرد واستحكاماته حاضرة في ذاكرتي بوضوح.

في جدلية الواقع والخيال، لا نستطيع الفصل بين ما عشناه وبين ما نكتبه، ويمكنني القول إن كل ما تسرده رواية "أجواء مباحة" واقعي وخيالي في الوقت نفسه. انطلقت في كتابة الرواية مستلهماً الجانب المظلم للحرب على الإرهاب التي استُخدمت فيها الطائرات المسيرة للقتل العشوائي وإسقاط الضحايا الأبرياء. ومن يعود إلى أرشيف الصحافة اليمنية سيجد ما هو أقسى مما جاء في الرواية. تحدثتُ عن أربع ضحايا في النص، وفي ذاكرتي أربعون ضحية. كان الحافز الأول الذي دفعني للكتابة واختيار موضوع الرواية حدثاً واقعياً: طفلة سقطت بين الضحايا في واقعة كان من المفترض، كما في كل واقعة، أن يكون المستهدف شخصاً واحداً، لكنه لم يسقط منفرداً، وكان من بين من سقطوا إلى جواره تلك الطفلة التي أصبحت مثل غيرها من الضحايا الهامشيين أرقاماً لم يعد يتذكرهم أحد. كنت أكتب الرواية وصورة الطفلة أمامي على سطح مكتبي، وكانت ملامحها البريئة تحفزني لأتخيل أمثالها من الضحايا الذين يسقطون كأضرار جانبية لا قيمة لهم.


الشرارة الأولى 

تعمدت أن أبدأ أولى سطور الرواية بوصف مقتل أم وبناتها الثلاث، قررت وضع الشرارة الأولى والحادث المؤسس الذي تتشكل حوله معظم تداعيات الأحداث في العمل. أردت أن يكون الموت الذي يدهم الشخصيات كحدث مفاجئ وعنيف وغير مبرر هو الذي يعيد تعريف مسار حياة بطل الرواية الذي دفعته الفاجعة لخوض رحلة مضنية ومؤلمة لا بهدف طلب الثأر، وإنما سعياً لفهم الشكل الأكثر بشاعة ووحشة للحرب والقتل العبثي الذي لا يخلف وراءه سوى صدمات عميقة في الذاكرة. أردت أن يكون توظيف الطائرة المسيرة في صميم بناء الرواية بوصفها أداة حربية ومحركاً جوهرياً يدفع عجلة السرد، ولم تكن الإشارة في الرواية لهذه التقنية الجديدة في القتل إشارة عابرة، لأن المسيرات أصبحت جزءاً من واقع الحروب الراهنة، رغم أنني كتبت العمل قبل أن يتكرر الحديث في الإعلام بوفرة كما هو الآن عن عمليات الطائرات المسيرة في الحروب الدائرة في أكثر من مكان من العالم. كنت وأنا أتحدث عن الحروب العمياء معنياً بتناول الطبيعة الجديدة لعنف الحروب الراهنة ذات الطبيعة غير البشرية، وإن كان البشر هم الذين يوظفون المسيرات في المعارك ويتحكمون بها، لكن توظيفها على هذا النحو يؤسس لعنف مختلف ويرسخ الطبيعة الآلية "العمياء" لحروب تفضي أكثر من غيرها إلى القتل العشوائي، حيث يكون الراصد للأهداف لاعباً بعيداً، وحيث يُختزل الضحايا الأبرياء بفعل قصف المسيرات إلى "خسائر جانبية" في هوامش التقارير المكتوبة بلغة باردة.

منطق الفن


أعي تماماً أن للفن منطقه الخاص، وأن على الروائي أن ينتج في النهاية عملاً فنياً ليس مطلوباً منه تقديم الاستنتاجات التي يقدمها باحثٌ، أو صحافي، أو محلل سياسي. وكل عمل روائي يستند إلى وقائع حدثت في الميدان يتوسل الفن والخطاب السردي لتجاوز ما يمكن أن يوحي بنكهة التقرير المباشر أو القصة الصحفية بحذافيرها، ويمكن للرواية أن تتفاعل مع محنة الإنسان في الحروب الطازجة التي نعيشها من خلال التركيز على الزوايا التي يبرع الفن الروائي في الإضاءة عليها. لأن مهمة الرواية أوسع من التوثيق، ولأنها تقرأ ما بين سطور حياة شخصياتها، ولأن الفن مطالب على الدوام بأن يظل فناً مهما كانت الأحداث التي يتناولها واقعية ومليئة بالقسوة، لا يجب أن يراهن الكاتب والفنان على قسوة الوقائع وحدها.

وجدتُ أن من المناسب كتابة الرواية بضمير المتكلم واستعارة شخصية الراوي العليم والمشارك في الأحداث لأتمكن من الإحاطة بتفاصيل وأبعاد الشخصيات على طريقتي، فساعدني هذا الخيار منذ البدء على أن أتلبس بشخصية عامر بطل الرواية، فجعلت فيه الكثير مني وخصوصاً في علاقتي بالمدينة والأصدقاء، فكانت هذه الشخصية مظلة أتجول وأنا ممسك بعصاها وأرقب كل الأحداث وأتحكم بكل تفاصيل الرواية.

سُئلت عن بروز ما يشبه الملمح السينمائي في الرواية، وأعترف أنني من هواة "أفلام الطريق"، أو هكذا أسميها دون معرفة ما إذا كان هذا التوصيف قائماً في أنواع الأفلام السينمائية؛ أضف إلى أننا في اليمن أبناء السفر، ومساحة البلاد واسعة، وكانت رحلاتي ومشاهداتي في الطريق من صنعاء إلى الحديدة أو إب أو تعز أو عدن رصيداً كبيراً أشعل الذاكرة والمخيلة، والتحمت المشاهدات الراسخة أثناء كتابة الرواية بالذاكرة والحنين، فكنت أتحرك بين السطور كأنني أحمل كاميرا تستعيد مشاهد الطريق، ولوحة مفاتيح الكمبيوتر خريطة ترسم بالكلمات كل تعرجات الطريق وملامح الأسواق الصغيرة والبيوت التي تستيقظ صباحاً في سفوح الجبال.

الكتابة من بعيد


أظن أنني لو بقيت في اليمن لم أكن سأكتب هذه الرواية، لكن الحاجة إلى تصفية الحساب مع ماضٍ بعينه، ورغبتي في الإشارة بأصبع الكتابة الطويل إلى أن بلدي مستباح، كل ذلك دفعني لكتابة "أجواء مباحة" التي تدور أحداثها بين نهاية العام 2007 والعام الذي تلاه، وعندما كتبتها كانت اليمن ما تزال تحت القصف منذ العام 2015، لكني لا أنصح بتناول الأحداث الطازجة في الكتابة لدواعٍ فنية يعلمها من يحترفون الأدب، لأن المواكبة اللحظية للأحداث الطازجة لا تنجيك من الوقوع في مطبات ومزالق. فكتبت الرواية عن زمن ولّى، وفي ذهني الاستباحة المستمرة لأجواء اليمن، وصادف أنني اخترت موضوع طائرات الدرونز التي تزايد استخدامها اليوم في حروب العالم، وأشعر أنني حققت ما أحسبه سبقاً في هذا المنحى لجهة التركيز على ما يصنعه توظيف الطائرات المسيرة في الحروب. أردت أن أكتب عن سماء بلدي المنتهكة بحذر شديد من أن تتحول الرواية إلى تقرير إخباري، فقررت البحث عن جذور الانتهاك التي كانت تبررها الحكومات المحلية في الماضي القريب، مثلما تبرر حكومات اليوم الانتهاكات الأحدث، ومثلما يحرض طرفٌ فوضوي العدو الذي لم نكن نتخيل أن تحلق طائراته في سماء اليمن وفوق موانئها ومطاراتها.

سنجد الحروب الممتدة في عالمنا اليوم تكتظ جميعها بالانتهاكات التي يتم التبرير لارتكابها. وفي رواية "أجواء مباحة" تجسد الطائرة المسيرة القوة الخفية الحاضرة في حروبنا الجديدة في أكثر من مكان، وهي القوة القادرة على إلحاق الموت والدمار عن بعد دون أن تطالها يد المساءلة. أردت الإشارة إلى هذه القوة التي ترمز لشكل من إرهاب التكنولوجيا وتجريد الصراعات من إنسانيتها، لأن المسيرات في حروب اليوم استعارة مكثفة لتوظيف أحدث منتجات الذكاء الإنساني في إسقاط الإنسان وجعله طرفاً في مواجهة الآلة العمياء في مقابل الطرف الذي يتحكم بالمسيرات وينقاد لسهولة اصطياد الضحايا بهذه الآلة التي حوّلت الحرب إلى لعبة والبشر إلى فرائس، وأصبح من يقفون وراء شاشات التحكم بأدوات القتل هذه لاعبين آليين، تبدو ساحة المعركة بالنسبة لهم مجرد شاشة مراقبة والضحايا مجرد أهداف مثل تلك التي يتم تصميمها في الألعاب الإلكترونية.

غياب لا يمحو المكان

سئلت أيضاً عن تأثير الغياب عن اليمن وتأثير البعد عن المكان على السرد، وأتصور أن من يعيش في بلده ويغادرها بعد الأربعين، تكفيه سنوات الطفولة والمراهقة ليحمل معه هواء البلاد ورائحة مطرها ولهجات أهلها. فأن تعيش في صنعاء منذ الثمانينيات حتى عام 2014، هذا عمر كافٍ لتحمل معك كل شيء. وبالتالي فإن المكان يصير جزءاً من عجينة الروح، لأن الماضي في هذه الحالة هو الزمن الأطول في ذاكرتي وله الغلبة. أما الحرية ودرجات اختلافها فأرى أن القيود بداخلنا نحن، ومن يقرر أن يكتب بحرية سيفعل ذلك في كل الأمكنة، ومن يحمل القيود والتحفظات في داخله سيحاصر نفسه وكتابته في كل مكان وفي أي بقعة من الخريطة يعيش فيها.

أردت أن أكتب رواية تحفزني على كتابة عمل ثانٍ أو أن أقفل هذا الباب وأدع السرد لأهله. يرتفع صوت القارئ الناقد في داخلي ليخبرني أننا نكتب الروايات والأدب تحت ضغط تجاهل ممكنات الحضور في مساحة التلقي الأوسع. وأتساءل باستمرار لماذا لا نكتب رواية عربية ونحن نفكر بالقارئ العربي في كل مكان؟ ورغم تجذر أحداث روايتي في السياق المحلي اليمني، اجتهدت في أن يكون لثيماتها الجوهرية صدى يشترك في تلقيه القارئ أينما كان.

أرى أن القارئ اليوم متطلب وشرس، منفتح على الإنتاج العالمي في الأدب والسينما والدراما، ولن يجامل الكاتب المحلي لأنه ابن بلده. ومن تجربتي أعتقد أن الأهم هو أن تكون عين الكاتب على المتلقي العابر للجهات، وهذا لا يعني الانسلاخ عن المحليّة بقدر ما يتطلب الارتقاء بتقنية الكتابة، وألا نخجل من مراجعة نصوصنا ومنحها هذا البعد المشترك الذي ينظر إلى النص بوصفه منتجاً إبداعياً لا يكتبه صاحبه لنفسه ولا لأصدقائه المقربين وعائلته.


ضد التقوقع

وجدت أن حالة التقوقع في تجاهل التلقي العابر للجهات تصيب القارئ المحلي أيضاً، والذي يحاكم النص طبقاً لسقف منخفض ولا يطلب أو يتوقع منه الكثير، لذلك لم أعول على من يقرأ مسودة الرواية من هذه الخلفية، وكنت المراجع الأول لعملي. وهذا لا يعني أنني لا أنصح غيري باختبار قراءة النص والاستعانة بالمحرر، لكني لا أنصح به إلا عند شعور الكاتب أنه بحاجة إلى من ينتشل معه النص من الوقوع في كوارث فنية محققة، أو باقتراح خيارات من قبيل تشذيب مشهد أو الاسترسال والإسهاب في فصل يبدو فيه سياق السرد تقشفاً يحرم القارئ من متعة اكتمال فسيفساء ونقوش لا بد من السماح لها بالتشكل. وهذا ما حدث معي، إذ قدم لي المحرر لدى الناشر توصية بحذف مشهد والاسترسال بكرم من دون مبالغة في مشهد آخر، بجانب طلب اقتراح مجموعة خيارات لعنوان الرواية. سوى ذلك، لم يقم محرر دار الآداب، بعد أن نفذت بنفسي توصيته، إلا بضبط علامات الترقيم وحذف ما زاد عن الحاجة من حرف العطف (و) الذي لا أكف عن حمله معي بين السطور كما لو أنه محراث لتقليب تربة المعاني، أو مخدة تستريح على صمتها الناعم كلمات تكاد أنفاسها أن تنقطع بين الفقرات... بذلك أستطيع القول إن عملي الروائي الأول كان ثمرة ما منحته له من وقت وصبر وتعايش طويل المدى مع أحداثه وشخوصه الذين وصل بي الحال معهم إلى حد اقتحامهم لمناماتي.


هذه الشهادة نشرت في جريدة  "أخبار الأدب"  

بتاريخ 7 سبتمبر 2025، العدد رقم 1676













تعليقات