«أجواء مُباحة» لليمني أحمد السلامي: الحكايات والإحالات

 أحمد الأغبري



صنعاء- «القدس العربي»: تتميز الرواية الأولى للكاتب اليمني أحمد السلامي، الصادرة نهاية العام الماضي، عن دار الآداب البيروتية، بعنوان «أجواء مباحة»، باشتغالها على موضوع لم يسبق تناوله روائيا، والمتمثل في النزف الإنساني جراء الغارات العمياء لطائرات دون طيار الأمريكية، التي كانت وما زالت تصطاد الأرواح دون تمييز، تحت عنوان محاربة الإرهاب، والتي شهدها اليمن بكثافة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وحسب بيان الناشر فالرواية «لا تغادر كوابيس الحروب والفوضى الممتدة في اليمن». عالجت الرواية، بكفاءة ثقافية وفنية ـ المعاناة اليمنية جراء غارات الطائرات المسيرة، من خلال اقترابها من قصة نزف عاشتها عائلة يمنية، وما ارتبط بها من تشابكات انتظمت خيوطها في حبكة سردية مدهشة، وقد اقترب، من خلالها، السارد، وفق رؤية وسردية متميزة، من قعر التفاصيل الصغيرة، التي يقف أمامها القارئ وجها لوجه مع الألم على شاشة القراءة، لتضعه أمام حكايات وإحالات، يُعيد، من خلالها اكتشاف بلد كان يبدو مألوفا.

تلك التفاصيل التي التقطها السارد من قعر الحكايات، ومستوى صوغها، وتمكينها من الإحالات الثقافية، وبالتالي منحها صلاحية الحديث نيابة عنه، هما القناتان اللتان تمنحان الرواية بُعدها الإبداعي، انطلاقا من كونها تتعامل، بمستوى من المستويات، مع المشاعر؛ وهذا الاشتغال يعتمد على خبرة السارد، وأفقه الإنساني والثقافي، إذ لا بد أن تكون السردية، في اشتغالها على المشاعر، قادرة على أن تتجلى عنها أحاسيس واضحة لدى القارئ ينفعل معها ويتأثر بها، تجاه ذلك الألم الإنساني الناتج عن هذا النزف؛ وهو ألم لا تستطيع تصويره سوى الكلمات وسرد جدير بالمهمة. وهناك، في ثنايا السردية المختلفة للسلامي، يتحسس القارئ بروحه قبل عينيه، وهو يتنقل بين السطور، معنى نزف الفقد المتواتر جراء قتل أعمى. وعلى عدد من المستويات تبرز الإحالات الثقافية متواترة مع كل منعطف من منعطفات الرواية؛ التي يُعيد القارئ، من خلالها، اكتشاف، ليس الرواية، بل التعرف إلى جانب من جوانب ثنائية الوطن والأبناء؛ وهي جدلية يطول التوقف عندها، ونكتفي بالإشارة إليها، فيما تمتعت به تنقلات الرواية من إحالات باتجاه هذه الثنائية؛ وهو ما يعزز من قيمة العمل على مستوى الرؤية الإنسانية، التي اعتمد عليها الكاتب في معالجة قضيته وموقفه، من خلال قناة فنية إبداعية واضحة.

اشغلت الرواية على أدوات مختلفة في خطابها، أبرزها عناية السارد بالوصف، متتبعا، من خلاله، الحركات والأصوات والتفاعلات، مُمعنا في منح الحوار طاقة انفعالية إضافية، رغم محدودية مساحته، وفي تلك السردية العالية يتجلى حجم المأساة حد سماع نبض قلبها المحفوف بالخوف على كل شيء، مع تتبع تداعيات كل ذلك، على صعيد العلاقات والخسائر بمعانيها المتعددة، بما فيها خسارة ثلاثية الذات والعائلة والوطن؛ وهو ينتقل في فضاءات القرية والمدينة، وإشكالات البلد المضطرب في علاقته بقيمتي الوطن والإنسان في آن؛ فعامر يفقد شقيقته وبناتها الثلاث، وليس هذا وحسب، بل يجد نفسه وسط خيانات وصراعات، وفي فترة سبقت بأعوام قليلة «تفجر الأوضاع في بلد التوازنات القلقة».

لم تكن الرواية مرتبطة بواقع الخسائر، التي صنعتها الغارات إنسانيا وفق عدسة السارد؛ بل انطلقت منها لتحاور إشكالات اجتماعية واقتصادية وسياسية، زادت من تعقيد الحالة اليمنية في علاقتها بالإدارة بأبعادها المختلفة؛ فجاءت الرواية محمولة على رؤى مختلفة، ناقش من خلالها الكاتب، العديد من القضايا، التي ما زالت في صُلب الخلل، الذي يفتقد معه اليمن بوصلته إلى مسارات يستعيد معها عافيته، وينطلق بواسطتها صوب تجاوز إشكالاته الحقيقية، وصناعة التحقق باعتبارات إنسانية وثقافية. كما أن ما يميز رواية «أجواء مباحة» أنها بقدر تعاملها مع الأرض، مثلت لها الأجواء المباحة للطائرات المسيرة فضاء واسعا للتأمل والهبوط والتغلغل في العوالم السفلية للمعاناة الناتجة عن تلك الغارات، ومن خلالها الاقتراب كثيرا مما تُخفيه يوميات الألم جراء نزف يعاني منه المجتمع اليمني في علاقته بأبنائه، وفي علاقته بالمستقبل، وقبل ذلك في علاقته بواقعه، والتفكير بكيفية تجاوزه.

هذه الانتقالات المدهشة واللافتة في سياق السردية بين الوطن والذات، الأرض والأجواء، القرية والمدينة، الرجل والمرأة، القبيلة والدولة، الشفافية والفساد، الماضي والمستقبل، إلخ، كانت مدهشة، وهي تُحيط بواقع اليمن في الريف والمدينة والدولة، في ثنائيات استطاع، من خلالها، الاقتراب من القاع في مناوشته للمستقبل، الذي ينشده لبلده؛ وهذا ليس بغريب على الكاتب، الذي جاء إلى حقل الرواية من تراكم عقود مع الكتابة الشعرية والصحافية والنقدية، التي أكسبته مرانا في التعامل الذكي مع تجربته الروائية الأولى؛ ولعل عمله محررا ثقافيا لعدد من الإصدارات، واطلاعه، من خلالها، نقديا على عدد كبير من الأعمال الأدبية، قد أكسبته مهارات إضافية في علاقته بالكتابة الأدبية؛ وهي ما تجلت بوضوح في كتابة هذه الرواية؛ إذ جاءت لغته، على شعريتها، مستفيدة من رؤيته النقدية في علاقته بالمعاني والصور والدلالات؛ وبالتالي تجاوز الخطاب الروائي لديه كثيرا من المطبات التي تقع فيها التجارب الأولى في الغالب، أما البناء الروائي فقد تصاعد بحذر شديد، تلمسنا فيه مدى تخوف الكاتب من القارئ وتردده، وبالتالي فقد كان حريصا على أن يلتزم إيقاعية سلسة في علاقته بهندسة أحداث الرواية في مبناها التصاعدي، واعتماده، في سياقه، على دوائر صغيرة، تحافظ على استمرار مشاعر القارئ مشتعلة، وتُبقي جذوة رغبته، في استمرار القراءة، متقدة.

جاء البناء والخطاب السرديان، في هذا العمل، مفعمين بما أسهم في تثقيل وزن العمل الروائي الأول له كعمل أول؛ وهو ما لا يعني، في كل الأحوال، أن النص لم تُشِبه اختلالات، ولم تعترِه هفوات؛ فهي واضحة وجلية للقارئ، وهي، وإن كانت غير مخلة، حرصتُ على تدويرها في سياق طرحي هذا، وتبقى هذه السطور أشبه بتحية نتنظر معها الأفضل.

القدس العربي - 14 أكتوبر 2025



تعليقات