الرمز والمفارقة في(قِّدِيس خارج اللَّوحة) لأحمد السلامي

 أمين الجرادي

 


يحرص الشعراء على استخدام مفردات اللغة من حيث العمق، ويهتمون بالصور المطوية داخل هذه المفردات بعضلاتها الكلامية ورمزيتها وإيحاءاتها ومستويات استخدامها.

تأتي نصوص ديوان (قديس خارج اللوحة) للشاعر أحمد السلامي والذي صدر قبل أيام عن منشورات مواعيد بصنعاء، لتجسد جمالية الرمز والمفارقة، وبناء النص وعمق اختيار المفردات، وبناء وجوه المفارقة التي تعيد انتاج النص.

(قدِّيس خارج اللّوحة)، هي مجموعة الشاعر الرابعة والتي جاءت بعد ثلاث مجموعات شعرية سابقة هي: (ارتباك الغريب)، (حياة بلا باب)، (دون أن ينتبه لذلك أحد)، وكتاب نقدي عن شعراء التسعينيات، عنوانه (هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن).

 وتُظهر مجموعة (قدِّيس خارج اللّوحة)، قدرات الشاعر الاسلوبية التي تجلت في قوانين اللعبة على مستوى اللغة والكلام انتاجاً لفضاءات متعددة، استطاع من خلالها أن يحرر ألفاظ النص من سياقها المعجمي نحو لعبة الدلالات المجسدة لتحولات المعنى.

في نص (قِّدِيس خارج اللَّوحة ص88)، الذي حمل عنوان الديوان، يوظف الشاعر اللغة وفق جماليات خاصة ارتقت من مستوى الصفر إلى فجوة التوتر، هذا التوظيف الجمالي الذي نراه في النص المتسم بالتكثيف الدلالي والصوري هو ما نسميه في البلاغة انزياح. الاستعارة انزياح، والمفارقة انزياح وشحن اللفظة ببعد جمالي ونفسي خاص هو انزياح، وانتقاء الصيغ والاختيار انزياح.

ما تقدم قوله شكل محاور مهمة في نص (قِّدِيس خارج اللَّوحة)، تتجلى فيها الدلالات الجمالية، وتظهر الجوانب الداخلية في النص من خلال شبكة علاقات داخلية محورية تدعم الدلالات العامة والبعد النفسي والجمالي.

 أن مفردة "قديس" تمثل حالة رمزية خاصة داخل النص، كما تعكس قراءة العنوان المتأنية ما سيؤول إليه النص.

لماذا هذا القديس يقف الآن خارج اللوحة؟ هل من الممكن القول إن "القديس" كان في السابق أحد مكونات اللوحة؟ ما الذي جعله إذن خارج اللوحة؟ هل يمكن للقارئ التنبؤ بوجود مفارقة منذ البداية؟

ً"قدِِّيس" هو رمز للقوى غير المرئية، للقوى الصاعدة والهابطة بين منبع الحياة وعالم الظواهر، وكما في حالات أخرى (مثل الصليب)، فإن الحقيقة الرمزية لا تغير الصورة الحقيقية. "قديس" يرمز إلى التسامي أيضاً، فمنذ الأيام الأولى للثقافات، وإلى ما فبل الميلاد، ظهرت صور القديسين في الأيقونات الفنية. ويعبر الفن القوطي، في العديد من اللوحات والرسوم عن الجوانب الوقائية والسامية لشخصية القديس.

ما أعرفه تماماً أنك

تنتمي لفصيلة البشر

تنجب أطفالاً

وتقف مثل الآخرين أمام الصراف الآلي

تفرح وتحزن كأي إنسان

بدأ النص بالتصريح والاعتراف:

(تنتمي لفصيلة البشر/ تنجب اطفالاً/ تقف... أمام الصراف الآلي/ تفرح وتحزن كأي إنسان).

 بيد أن القارئ سيتوقف حال الوصول إلى: (وتقف مثل الآخرين أمام الصراف الآلي).

ما الذي توحي إليه المفردة المركبة (الصراف الآلي)؟

يبدو أن احتمالات قراءة هذه المفردة تتيح للمتلقي إقامة أكثر من نشاط نقدي لإظهار دلالات متعددة، تقوم على التأويل المفتوح.

 كما أسلفنا في المقدمة كيف يحرص الشاعر على استخدام مفردات اللغة من حيث العمق، والصور المطوية داخلها، وما تحمله من إيحاءات. لذا يمكن القول إن المفردة المركبة (الصراف الآلي)، جاءت في اشارة للتوقيت العصري والزماني وما تحمله هذه المفردة من دلالات وإيحاءات على مستوى الحياة المعاصرة وإنسان القرن الجديد.

إلى ذلك يأتي التضاد الظاهر بين مفردتي (تفرح وتحزن) ليفضي بالنتيجة إلى إعطاء المفارقة ضربتها الشعرية وقيمتها الدلالية المعبرة. هذا التضاد الظاهر، هو ما يساهم في الكشف عن ائتلاف دلالي باطن يصل حدَّ التكامل الذي تنبع منه هذه المفارقة.

تيقن من الأمر بنفسك

انتزع ملامحك بهدوء

من داخل تلك اللوحة

التي تظن أنك بداخلها

وحين تستعيد ظلك

تأمل اللوحة من خارجها

إن وجود القديس داخل اللوحة لا يعني الوجود الجسدي لكن وجود الصورة والملامح فقط. وهكذا يستثمر الشاعر بناءه للنص والحركة بداخله لاعباً على مفهومي الرمز والمفارقة. بدأ هذا اللعب بشكل طفيف بـ (ما أعرفه تماما...) ثم استمر في التطور:

(وحين تستعيد ظلك

تأمل اللوحة من خارجها)

"الظل" هو المصطلح الذي أطلقه "يونغ" على الجانب البدائي والغريزي للفرد. بما أن الشمس هي نور الروح، فإن الظل هو "ضعف" الجسد السلبي، أو صورة جانبية لمجسدات الخير والشر. فمنذ الشعوب البدائية، تقول الفكرة بأن الظل هو الأنا، بينما الروح هي الفكرة الراسخة؛ كما ينعكس في الفلكلور والأدب لبعض الثقافات القديمة. وفي هذا يلاحظ "فريزر"، أن البدائي اعتبر ظله، أو انعكاس صورته في الماء أو في المرآة على أنها روحه أو كجزء حيوي من نفسه.

يمكنك الاقتراب أكثر

سترى أن الأنبياء والقديسين

داخل اللوحة

لا يفتقدون صورتك

لأنك لست واحداً منهم.

إن "قديس" أحمد السلامي حالة تعكس الاغتراب وخيبة الأمل. مع ذلك فإن ثيمة النص الاساسية تكمن في وجه المفارقة الاخيرة للنص والتي تؤكد للمتلقي على أهمية التحرر من الوهم والاعتقاد الخاطئ.

ليس واضحا دائما ما إذا كان المرء يصل إلى فهم عميق للواقع أم أنه فقط ينتقل من وهم الى آخر. قد يميل الانسان بمعرفة أو بدونها، لتشويه أو تحريف الواقع لكي يجعله أكثر قبولاً، ويتم ارشاد الذهن الإنساني نحو الاوهام التي يمكن تكييفها لحاجات الانسان ورغباته. من الصعب القول أين ينتهي الواقع وأين تبدأ الأوهام لأن الانتقال بينهما عادة غير واضح وملتبس.

في نص (شجرة ص 23)، يتكشف الحوار بين الشاعر والشجرة نفسها:

سألت شجرة عن عمرها

قالت: أنطر إلى وجهي الذي نحتته الرياح ونقشته العصافير

بالأمس رسم الصباح على أغصانها ابتسامة

ثم مرت عاصفة

تركت على اوراقها بعض الغبار والصمت

 تشير رمزية الشجرة إلى حياة الكون: أتساقها ونموها وانتشارها وعملياتها التوليدية والتجددية. إنها تعني الحياة التي لا تنضب، وبالتالي فهي تعادل رمز الخلود.

إن قراءة النص تكشف للمتلقي إن هذا الحوار القائم بين الشاعر والشجرة ليس أبعد من الحوار بين الشاعر والحياة. ويزيد اليقين من ذلك عن استكمال قراءة النص:

سألتها: ماذا ترك الرجال الذين مروا من تحت ظلك؟

قالت: تركوا تنهدات الظهيرة

وحفروا أسماءهم على جذعي

وتقمصوا الحكمة

ليحتملوا الكثير من الحماقات!

في (تركوا تنهيدات الظهيرة/ وحفروا أسماءهم على جذعي)، دلالات وصور تفسر وجه التشابه الكبير، بل التطابق بين الشجرة والحياة، وهكذا كل من مروا من تحت هذه الشجرة رغم المحاولة (تقمصوا الحكمة) من أجل (احتمال الكثير من الحماقات).

إن مفهوم "الحياة بدون موت" يمثل من الناحية الوجودية، "الواقع المطلق"، وبالتالي تصبح الشجرة رمزا لهذه الحقيقة المطلقة، أي مركز العالم.

ترمز الشجرة، بجذورها تحت الأرض وفروعها التي ترتفع إلى السماء، إلى اتجاه تصاعدي، وبالتالي فهي مرتبطة برموز أخرى، مثل السلم والجبل، وهو ما يرمز في بعض الثقافات إلى العلاقة العامة بين "العوالم الثلاثة '': العالم الاوسط: الأرض، العالم السفلي: الجحيم، العالم العلوي: الجنة.

في نص (صخور 22)، تأتي رمزية الصخور لتعبر عن القوة والصلابة، فبرغم أنه لا يملك خبرة لصناعة الالم للآخرين، لكن ذلك يغضبهم كلما تجاوز كل العراقيل الموضوعة في طريقه:

(لا أملك خبرة في صناعة الألم للآخرين

لكنهم يغضبون مني عندما انجح في تفادي الصخور التي يضعونها في طريقي دون أتعثر بها!)

 إن تجاوز الشاعر للصخور يعني أن لديه من القوة ما يتجاوز هذه الصخور..

الصخرة رمزية تدل على الديمومة والصلابة والسلامة، ويمكن اعتبار هذا صحيحاً بشكل عام. إنه لا يتعثر من الصخور، بل يعبر الطريق إلى النهاية. وكأن هناك علاقة بينه وبين الصخور. يعتقد في الكثير من التقاليد أن الصخور مكان سكن الإله. جاء في الميثولوجيا الرومانية، أنه في البداية، ومع بداية الخلق، كان العالم مغطى بالماء، ثم سكن الإله الخالق العظيم داخل صخرة. ويعتقد ان أهمية الصخر ناشئة عن الصوت الذي يصدره عند ضربه وبسبب وحدته - أي صلابته وتماسكه.

أخيراً:

تأتي نصوص ديوان (قديس خارج اللوحة) للشاعر أحمد السلامي، لتجسد جمالية بناء النص وعمق اختيار المفردات ورمزيتها، وبناء وجوه المفارقة التي تعيد انتاج النص، وهو ما رأيناه من خلال قدرة الشاعر على تحرير ألفاظ النص من سياقها المعجمي نحو لعبة الدلالات المجسدة لتحولات المعنى، انطلاقاً من وجوه التمايز، فالمظهر الابداعي للغة يستند إلى اختيار تراكيب ملائمة، تُسهم في تكثيف المحمولات الدلالية في نقطة تفرض سلطة النص وتأثيره.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة