مدخل لإعادة قراءة الموضوع في أدب محمد عبد الولي

 

 

(تأملات حول تأثير القراءات المحلية والإقليمية للنص على أفق التلقي)

 

أحمد السلامي

 

مقدمة


تهدف هذه القراءة إلى البحث عن إمكانية إعادة قراءة أدب القاص والروائي الراحل محمد عبد الولي(1)، من جهة التعدد في الموضوعات التي تمحورت حولها أعماله، على افتراض أن ثمة تمظهرات مباشرة للموضوع تفصح عن نفسها في النص، وأخرى كامنة أو مضمرة، لكنها تظل حاضرة في القراءة الكلية للنص، بل ويمكن لها أن تشكل ما يمثل المتن على صعيد الموضوع، وبخاصة إذا ما تمت القراءة من مسافة تعطي للتفاصيل في أعماله دورها الوظيفي فحسب، دون أن تؤثر على سياق القراءة الكلية لنصوصه.

أي أننا نبحث عن إمكانية العثور على أبعاد مضمونية تتخفى أو تكشف عن منطقها ونفترض أنها قد غابت عن القراءات السابقة التي تناولت تجربة الكاتب، أو تم تغييبها.

والحديث عن (التغييب) المفترض هنا يقودنا إلى محاولة تحليل فرضية أخرى تتعلق بتأثير القراءات المحلية والإقليمية للنص على أفق التلقي. بمعنى أن القراءات المحلية قد تمارس أحياناً قدراً من المقاومة، بوعي أو من دون وعي، ضد بعض ما يحتويه النص، لحجب ما ترى أنه يخدش صورة المجتمع المحلي عن ذاته، إذا ما بدا أن ذلك المحتوى في النص يصطدم بتلك الصورة.

وإذا كان الموضوع في أعمال محمد عبد الولي هو المجال الذي وجدنا أنه يتيح العثور على مدخل حيوي لإعادة قراءة نصوصه، فإن البحث عن هذا المدخل يقتضي بالضرورة تجاوز التوصيفات السابقة التي ظلت تنظر إلى تجربته من زاوية أسلوبية، لتخلص معظمها إلى تأكيد دوره الريادي في الانتقال بتقنية القص إلى مرحلة جديدة فحسب، في حين ظل سياق تلك التوصيفات يتجاهل الأبعاد الموضوعية المباشرة والكامنة في مجمل أعماله. باستثناء الحديث المتكرر عن موضوعة الهجرة، كثيمة أساسية جرى اختزال مشاغل أعماله ضمنها، مقرونة بمفردات تحيل إلى المعنى ذاته، كمفردة (الغربة) التي يوظفها البعض بالمعنى الشعبي لمفردة الهجرة أيضاً وليس بمعنى الاغتراب، رغم فاعلية المعنى الأخير للتجسيد في بعض نصوص الكاتب، بدلالات تنسحب على الهوية، وتتجاوز الاسقاطات التي ظلت تتعامل مع مفردة الهجرة بوصفها المدخل الوحيد أو الأساسي للتعاطي السوسيولوجي مع نصوصه.

سندع للسياق هنا حرية التنقل والاستطراد داخل هوامش متوالية، تشتغل بالتوازي على الفرضيات التي تم عرضها في هذه المقدمة، وعلى مسارات أخرى متداخلة تحاول معالجة:

-          تأثير التناولات المحلية والإقليمية للنص الإبداعي بشكل عام، ومدى إسهامها في تسويق أو حجب النص ومضامينه الأخرى وتحديد سقف تلقيها في الخطاب النقدي.

-         استعراض لأبرز ملامح الصورة المستقرة في القراءات النقدية عن تجربة الكاتب.

-         تحرير تجربة الكاتب من أولويات القراءة التي تضمرها الجغرافيا المحلية بكل ملابساتها، ومحاولة النظر إلى هذه التجربة من زاوية جديدة، تعتمد على نسيان التوصيفات السابقة لها، مقابل الاشتغال على توطين النص في الذاكرة من جديد، ودفعه إلى التموضع في السياق الإنساني للإبداع. وعلى ضوء ما يتكشف لنا، ومن خلال القراءة الكلية للنص، يمكن تأسيس مداخل القراءة الجديدة للموضوع في أعمال الكاتب محمد عبدالولي.  

 

أولا: تمهيد

1-   3 حول ازدواجية الذائقة

تبدو الذائقة العربية مسترخية في تعايش صامت مع نوع نادر من ازدواجية التلقي، إذ تجري - على سبيل المثال – مطالعة الروايات المترجمة إلى العربية بشغف، بينما تتكاسل الذائقة عن التعاطي بشغف مماثل مع منتوج بيئتها.

الأمر هنا لا يتعلق بحالة هوس مجانية تقود إلى استهلاك منتج الآخر، بقدر ما يتعلق بنزعة هروبية نحو إقصاء تعبيرات الذات وسجنها في خانات ضيقة عن قصد وتعمد سنأتي على ذكر أسبابه وخلفياته في السياق.

على أن الخوض في إشكالية ازدواجية الذائقة العربية وإدمانها إقصاء تعبيرات الذات، ليس معنياً ببحث تأثير الإشكالية على ما يمكن أن يناله المبدع كإنسان من شهرة وامتيازات اجتماعية، كتلك التي يحظى بها أهل النجومية، لأن مثل هذه الشكليات لا تضيف لإبداع المبدع ولا تزيد شيئاً في قيمة أدبه أو فنه، إنما نقصد هنا التأثيرات التي تلقي بظلالها وظلامها على النص الإبداعي والقراءة الناقدة، المعنية بإضاءة ما يمثله النص في جوهره من مضامين ورؤى جديرة بأن تعلي من قيمته في ذاكرة المجتمع، وفي الوجدان الثقافي والفعل النقدي، بما في ذلك نقد تشوهات الذات.

 

2- 3 تأثير القراءات المحلية للنص على أفق التلقي

إضافة إلى ازدواجية الذائقة، تعاني النخبة العربية من إشكالية مركزية، تتشظّى بعد ذلك على المستوى الإقليمي والقطري بذات الفعالية والتأثير في ما يتعلق بقراءة النص الإبداعي عموماً، في حال توفرت فرص التلاقي معه، أو مع التجارب الأدبية التي تبدو مكتملة، إما برحيل أصحابها، وإما بتحققهم واتضاح معالم تجاربهم عندما يتراكم المنجز في حياة المبدع.

هذه الإشكالية تتعلق بما أسميه (تعريب الذائقة) وأحياناً أقلمتها، (أقلمة الذائقة القرائية).

ولنقل ابتداءً أن تجربة محمد عبد الولي كمثال، تعرضت لحالة يمننة قرائية وأدلجة إكراهية، وجدت لمنطقها الافتتاحي في سبعينات القرن الماضي مناخاً لتكوين صورة أحادية عن أعماله، على نحو ما يتم تداوله واختزاله حتى اليوم، ناهيك عن جاهزية مستمرة في أعماق الوعي للاستسلام لسياق في القراءة لا يخدش الصورة التي تتبناها الذات الجمعية عن نفسها، الأمر الذي يدفعها إلى الاقتناع (قرائياً) بالبحث في ثنايا النص عن المعطيات الملائمة والمعززة لصورة الذات في مرآتها، بينما يتم تحاشي الإشارة إلى أية أبعاد مضمونية في النص لا تتفق مع تلك الصورة، أو تعمل على خدشها وتعريتها.

ولعل أخطر ما ينتج عن التقوقع الذوقي القائم على التلقي الإقليمي هو حرمان النص من الانفتاح قرائياً على آفاق إنسانية متجاوزة لشوفينية التلقي واستحكامات الذائقة المحلية وشروطها الفنية والأخلاقية ربما.

ويبقى الحفاظ على سياق عربي للنص؛ يرث ويراعي العمق التاريخي والامتدادات المعاصرة لجماليات العربية وخبراتها المتراكمة؛ أمراً مطلوباً، لكن الإشكالية التي نقصدها هنا تكمن في توحد الذائقة في اللغة العربية بالعروبي المجتمعي، الذي يتعصب لقيمٍ وينفي أخرى سلبية قد تكون متغلغلة وفاعلة في بنيته، بمعنى أن هناك حفاظاً مضمراً على سياق إقليمي ومحلي في التلقي الكلي والنهائي للنص. وهذا أمر يختلف كليةً عن مسألة الحفاظ على سياق جمالي عربي للكتابة وتالياً للقراءة.

وهناك دائماً صورة مثالية عن الذات الجمعية، تتوزع بين الوطني والقومي (الإقليمي والعربي). ومنذ رحيل الاستعمار عن المنطقة العربية على مراحل منذ منتصف القرن الماضي، مروراً بظهور فسيفساء الدولة القطرية؛ جرى ما يشبه التحالف الصامت بين نخب المثقفين ونخبة الحكم، وظل الطرفان يتواطآن ضد ما نحن عليه بالفعل، على المستوى الحضاري والقيمي، مقابل تسويق صورة مثالية ووهمية عن الذات، وبالتالي عن النص المنتج.

وها هي الأطر السياسية التي كانت معبرة عن البؤرة المركزية في تلك الصورة قد بدأت بالانهيار التدريجي، تحت عنوان "الربيع العربي"، الذي دشنته الحشود الغاضبة، للإعلان عن رفضها ولو لمساحة صغيرة من الزيف الهائل الذي لا يزال يكلل مساحات شاسعة من الصورة ذاتها، ومن وعي الجماهير التي ثارت ضد مشهد وأحد في الصورة.

ولم تكن العملية النقدية في حقل الثقافة والأدب بمعزل عن التواطؤ الشامل ضد الذات الكامنة لصالح الصورة المتخيلة عنها، وقد أدمن القارئ العربي التسامح مع تسويق التوصيفات النقدية الجاهزة، وإعادة إنتاج مقولاتها وتشخيصاتها للنصوص الإبداعية، إلى أن أصبحت تلك المقولات العابرة أحكاماً نهائية لا تقبل المراجعة أو الإضافة.

وتالياً ارتسمت في ذاكرة التلقي العمومي صورة مقولبة ونهائية للنص. وعادة ما تكتسب مثل تلك التوصيفات ما يشبه القداسة والقطعية، عندما يتم تداولها وتضمين استنتاجاتها في الدراسات على هيئة ثوابت، ويجري البناء عليها، ولكن بحذر، ودون امتلاك الجرأة على نفيها أو اختبارها من جديد، للتحقق من مدى مقاربتها لما يمثل العناصر الجوهرية في النص كما في الواقع.

ولعبت الدراسات التي تندرج ضمن حقل النقد الأكاديمي بالتحديد دوراً في تكريس واستمرار تعايش التلقي مع إشكالية اجترار الأحكام السابقة التي حاصرت التجارب الأدبية، وعملت على الحد من التعاطي مع المضمر والكامن والإنساني بصفة عامة في النص.

وعندما ننظر إلى بعض الدراسات التطبيقية الحديثة، نلاحظ أنها انشغلت بالتركيز على جعل النص مختبراً لتطبيق المنهج، فأصبح الدرس النقدي هو المتن، بينما تحول النص إلى هامش. فنتج عن هذا (الهروب المنهجي) انحطاط نقدي يتماهى مع بقية مظاهر الانحطاط في الواقع. كما نتج عن ذلك الهروب حالة من العجز الوظيفي الذي أعاق الخطاب النقدي عن اكتشاف تعدد مشاغل النص وقابليته لإنتاج دلالات متجددة، تقاوم الزمن وتنفتح على الأفق الإنساني المتجاوز لمنظور التلقي الحذر الذي تنتهجه البيئة المحلية التي أنتج النص في ظلها.

 

 

3-   3 بيئة إنتاج السرد واستهلاكه

لا يكف الاشتغال بالإبداع في اليمن إنتاجاً وتلقياً عن كونه عملاً نخبوياً ترفياً يفتقد إلى اكتمال المعادلة الطبيعية لإنتاج الفن وتسويقه =

إنتاج+ استهلاك= ازدهار وتجويد مستمر للمنتج.

بل إن الأمر في هذا المنحى يكاد لا يزال يمر بمرحلة أدنى من نخبوية التعاطي مع الإبداع، ليصل في تدنيه إلى الفردية، التي تظل بدورها أعجز من أن تمثل حالة نخبوية في مجتمع يتصف بعدم الاستقرار وتفشي الأمية.

ولاستقرار المجتمعات دور محوري في نمو التعبيرات الفنية والأدبية التي تأتي بمثابة تتويج لتفاعلات وحركية الإنسان في بيئة تكون قد أنجزت الأولويات الأساسية للحياة المستقرة والآمنة، وأعني بها الحياة التي تتيح للفرد والمجتمع بعد ذلك الالتفات إلى التعبير عن هواجس الروح الجمالية ومشاغلها الوجدانية.

وبشأن ما يخص عوامل وممكنات ازدهار الإبداع السردي وكتابة الرواية تحديدا، تتجه بعض الدراسات الثقافية التي تتبعت مناخات ولادة الرواية العربية إلى التنويه بأهمية شرط "اكتمال ميلاد المدينة الحديثة الذي ارتبط (بنمو) الطبقة الوسطى، متفاعلة معها في تأسيس "الوعي المديني" لهذه الطبقة، وهو الوعي الذي كان مقدراً له إنتاج فن الرواية واستهلاكها، في علاقة قرائية منبعها التعليم المدني، وواسطتها المطابع (....) خصوصاً بعد أن استقرت أوضاع الطبقة الوسطى في المدينة الحديثة التي أصبحت متعددة العناصر والألسن، فكانت المنتج والمستهلك لهذا الفن ..." (2)

وبإزاء محورية ودور الطبقة الوسطى في تهيئة مناخ إنتاج الرواية واستهلاكها، يبدو وضع هذه الطبقة في اليمن هلامياً، ويتعذر الحديث عنه بقدر ما يتعذر الحديث بجزم عن تشكل مدينة حديثة ووعي مديني واضح المعالم والخيارات، ناهيك عن أن هذه الطبقة الهشة في اليمن لا تزال تعاني من "القصور الوظيفي" الذي يجعل دورها ضعيفاً "في نشر ثقافة التحديث وتبني قضايا المرأة والمواطنة والعدالة الاجتماعية وتطوير التعليم والمساهمة في رسم سياساته".(3)

وسنلاحظ فيما لو تم تناول الموضوعات التي تثيرها رواية محمد عبدالولي "يموتون غرباء" في قراءة مستقبلية ما يعيدنا إلى استحضار كل هذه الغيابات مجتمعة؛ أثناء التنقيب عن ما أسهمت بيئة التلقي في تغييبه قرائياً.

 

 

ثانيا: الصورة المستقرة عن أدب محمد عبد الولي

1-   2 بعض هوامش الصورة المتداولة

أصبحت لدى الذاكرة الثقافية صورة مستقرة وشبه نهائية عن أدب محمد عبد الولي، وكلما استعاد الخطاب النقدي تجربته؛ عاد لتثبيت تلك الصورة الأولى، بالاستناد إلى الإحالات والتوصيفات المبكرة التي وضعت منجزه في قفص ضيق، من جهة الموضوعات التي انشغلت بها أعماله السردية.(4)

وتالياً تموضعت هذه الصورة في خارطة التلقي العمومي، منذ أن رسم إطارها الأول التلقي المحلي المبكر، وفق مزاج اختزالي ومستسلم منذ بداياته الأولى لنكهة أيديولوجية، متماهية غالباً مع الصوت العالي والخطابية ذات النبرة السياسية في بعض المقاطع التي جاءت في أعمال الكاتب. وربما ظن الناقد/القارئ في تلك المرحلة أنه كان يضع يده على كنز حين يستشهد بتلك المقاطع ذات النبرة الوعظية والخطابية المرتفعة، فأصبحت تلك الاستنتاجات المبكرة متداولة بغزارة، وظلت مكرسة لدى النقاد والأكاديميين (5) ولدى الخطاب النقدي العربي، وحتى في كتابات بعض الباحثين الأجانب الذين تطرقوا إلى أعمال عبد الولي وأسهموا في ترجمة بعضها. (6)

ما نعنيه هو أن ثمة صورة أخرى لأدب عبد الولي، لا تزال غائبة أو مغيبة، ويتطلب استكشاف خطوطها الأولية النظر إلى أعماله بمنظور إنساني وكوني، يتسق مع طبيعة ورسالة النص الإبداعي عموماً، على اعتبار أن كل نص إبداعي هو نص كوني وإنساني وعالمي بالضرورة.

من هنا نرى أن البحث عن مداخل جديدة لإعادة اكتشاف وقراءة أدب صاحب "يموتون غرباء"، يتطلب تحرير تجربته من شروط ومهيمنات القراءات المحلية، بل والنقدية المتعصبة للمنهج وتطبيقاته على حساب النص.

وتفترض هذه القراءة التمهيدية وجود مداخل قابلة لتمكين القارئ من النظر إلى تجربة هذا الكاتب من زاوية تساعد على سبر أغوارها الإنسانية وتأمل الأبعاد والدلالات في المضامين المغيبة التي لم يتم الكشف عنها أو تم تجاهلها في أدبه حتى الآن.

 

2-2 بعيداً عن ثنائية الشكل والمضمون

لعل من أبرز العوامل التي شغلت القراءات ذات المرجعية المحلية عن تأمل مجمل الأبعاد الموضوعية في أدب محمد عبد الولي، هي انشغال تلك القراءات – ولأغراض مدرسية وأكاديمية أحياناً – بالانهماك في دراسة الجوانب التقنية والأسلوبية، وما يتعلق بالهيكل الفني الخارجي للنص، ومقارنة كل ذلك بالخطوات التي قطعتها الكتابة السردية في اليمن، بحيث اكتفى معظم الدارسين بمنح عبد الولي شهادة الريادة والانتقال بفن السرد إلى خطوة متقدمة من الناحية التقنية، بالقياس إلى تجارب الأسماء الأخرى المعدودة التي سبقته بتدشين البدايات القصصية الأولى.(7)

في الاتجاه ذاته حظيت الصورة المستقرة حول موضوعاته ومضامين قصصه ورواياته بتوظيف مماثل في سياق مقارنته بالرواد السابقين، ودون أي تعمق في عوالم نصوصه وأبعادها المتجاوزة للتقني والأسلوبي من الناحية السوسيولوجية.(8)

فيما ظهرت كتابات أخرى معنية بالتنقيب عن السيرة الشخصية للكاتب، وهذا النوع من التنقيب عن سيرة المؤلف الراحل كان له حضور مبكر أيضاً، وظل يتخلل الكتابات التي تميل إلى المزاوجة بين قراءة النص واستذكار سيرة كاتبه، رغم أن المؤلف قد أمسى منفياً وميتاً في النقد الأدبي الحديث، ولم تعد قراءة العمل الأدبي معنية بسيرة صاحبه. (9)

ولا شك أن الجدل حول العلاقة بين ثنائية الشكل والمضمون قد حسم في المدونة النقدية لصالح الترابط البديهي بينهما، واتصال ذلك الترابط كذلك بوعي المبدع بتجربته، وبالجنس الأدبي الذي يبدع من خلاله، وضمن شروطه الجمالية والخبرات الجديدة التي تطورت وتشكلت مع مرور الزمن وتعاقب التجارب.

إلا أن أي سعي للبحث عن مدخل أو مداخل لإعادة قراءة أدب عبد الولي من جهة الموضوعات والأفكار التي تطرحها النصوص، يقتضي في تصورنا تجاوز الانشغال بالمعطى الأسلوبي والتقني في هذا السياق للأسباب التالية:

1-    لأن النظر إلى هذه التجربة من زاوية التقني والأسلوبي بات يتطلب الكثير من القسوة على النص، ومحاكمته أسلوبياً من منطقة زمنية خارجة عن سياق الزمن الأصلي الذي انكتب خلاله. والأمر ذاته ينطبق على ملامح الركاكة في صياغة بعض الجمل كما لاحظنا ذلك في رواية "يموتون غرباء".

2-    نرى – إذا جاز الحديث عن الثابت والمتحرك في النص – أن البعد التقني يمكن أن يتصف بالثبات، فيما يبقى الموضوع متحركاً وقابلاً للقراءة والتحليل.

3-   نرى كذلك أن القراءة السوسيولوجية هي الأنسب لفحص الأفكار والمضامين التي لم تلامسها القراءات السابقة، لأن أعمال عبد الولي لم تحظ بقراءة شاملة تستقصي موضوعات أعماله، باستثناء الإشارات المتكررة إلى موضوعة الهجرة التي تقدم في النهاية بعداً أحادياً لتجربة مهمة كهذه، نرى أن اختزال أجواء الموضوع فيها على هذا النحو يتطلب المراجعة.

 

4-    من خلال تأمل عابر وقراءة أولية لرواية "يموتون غرباء" كمثال، تبين لنا أن الأبعاد الموضوعية في هذه الرواية تمثل مدخلاً يفتح آفاقاً لإعادة قراءة العمل والتجربة عموماً، بالنظر إلى ما يتيحه الموضوع من ممكنات للقراءة الجديدة التي نقترحها.

 

5-    من المداخل أو الموضوعات التي تكشفها لنا القراءة الكلية لرواية "يموتون غرباء" كمثال في هذا السياق، يتضح لنا أن طبيعة تلك الموضوعات ومدى حساسيتها تجاه صورة المجتمع عن ذاته، أعاقت القراءة النخبوية عن التعاطي معها، ولعل من أبرز تلك الموضوعات: النظرة العنصرية تجاه (المولدين). وتتطلب المقاربة العملية لإعادة قراءة تجربة محمد عبد الولي من هذا المنظور دراسات أخرى تشتغل على نصوصه وموضوعاتها بشكل مستقل ومنفصل عن التأملات النظرية.

 

6-   وختامًا تلزم الإشارة إلى أن هذه الورقة حول أهمية إعادة قراءة الموضوع في أدب محمد عبدالولي تبقى تمهيدًا، ولن تكتمل إلا بقراءات أخرى تتجه إلى تحليل روايات وقصص هذا الكاتب، وفقًا لما سعى إليه هذا التمهيد، وهو لفت أنظار النقاد والقراء إلى ضرورة إعادة قراءة نصوص عبدالولي وتحريرها من القولبة المحلية، لأن القراءات المنفتحة على نصوصه بمعزل عن تلك القولبة، ستكشف تنوع وتعدد موضوعاته، إلى جانب اشتغاله الجوهري الذي يفضح فيه العنصرية الكامنة في المجتمع بأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية.

هوامش:

(1)            أنظر نبذة عن حياته وأعماله في: جونتر أرت، دراسات في القصة اليمنية القصيرة، ص 31 إلى 34، ط1، 2004م، مركز عبادي للدراسات والنشر، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء.

(2)            جابر عصفور، الرواية والاستنارة، ص 17، ط1، 2011م، كتاب دبي الثقافية 55، دار الصدى، دبي.

(3)            د.عبد الله عوبل منذوق، سياسات التنمية والطبقة الوسطى، ص118-119،ط1، 2008م، دار نجاد للطباعة والنشر، صنعاء.

(4)            أنظر مقدمة عمر الجاوي لرواية "يموتون غرباء" التي استند إليها الكثير من الدارسين، ص5- 11، ط2، 1978م، دار العودة، بيروت.

(5)            أيضاً مقدمة الجاوي لرواية "يموتون غرباء"، ويستعيد الدكتور عبد العزيز المقالح استخلاصات المقدمة ذاتها في دراسة له بعنوان "مقاربات أولية حول واقع الرواية في اليمن" نشرت في: مجلة غيمان، الصفحات 13، 14، العدد 4، ربيع 2008م

(6)            جونتر أرت، دراسات في القصة اليمنية القصيرة، سبقت الإشارة إليه في هامش رقم 1

(7)            نماذج لمثل هذه التناولات في "النقاد يصنعون موجة للبحر" نادي القصة إلمقه، ط1، 2008م، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الأمانة العامة.

(8)            أيضاً في "النقاد يصنعون موجة للبحر".

(9)            أنظر مساهمة سامي الشاطبي في هذا الاتجاه بعنوان " محمد عبد الولي.. سيرة موجعة وكتابة مغلفة بالحنين (القصة الكاملة )، منشورة على الموقع الالكتروني لنادي القصة اليمنية (إلمقه).

(10)      أنظر نبذة عن حياته وأعماله في: جونتر أرت، دراسات في القصة اليمنية القصيرة، ص 31 إلى 34، ط1، 2004م، مركز عبادي للدراسات والنشر، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء.

(11)      جابر عصفور، الرواية والاستنارة، ص 17، ط1، 2011م، كتاب دبي الثقافية 55، دار الصدى، دبي.

(12)      د. عبد الله عوبل منذوق، سياسات التنمية والطبقة الوسطى، ص118-119،ط1، 2008م، دار نجاد للطباعة والنشر، صنعاء.

(13)      أنظر مقدمة عمر الجاوي لرواية "يموتون غرباء" التي استند إليها الكثير من الدارسين، ص5- 11، ط2، 1978م، دار العودة، بيروت.

(14)      أيضاً مقدمة الجاوي لرواية "يموتون غرباء"، ويستعيد الدكتور عبد العزيز المقالح استخلاصات المقدمة ذاتها في دراسة له بعنوان "مقاربات أولية حول واقع الرواية في اليمن" نشرت في: مجلة غيمان، الصفحات 13، 14، العدد 4، ربيع 2008م

(15)      جونتر أرت، دراسات في القصة اليمنية القصيرة، سبقت الإشارة إليه في هامش رقم 1

(16)      نماذج لمثل هذه التناولات في "النقاد يصنعون موجة للبحر" نادي القصة إلمقه، ط1، 2008م، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الأمانة العامة.

(17)      أيضاً في "النقاد يصنعون موجة للبحر".

(18)      أنظر مساهمة سامي الشاطبي في هذا الاتجاه بعنوان " محمد عبد الولي.. سيرة موجعة وكتابة مغلفة بالحنين (القصة الكاملة )، منشورة على الموقع الالكتروني لنادي القصة اليمنية (إلمقه).

تعليقات

المشاركات الشائعة