(حياة بلا باب) للشاعر اليمني أحمد السلامي.. سيرة تقلبُ الداخل المكبوت لتفوح دفائنه
علوان مهدي الجيلاني
حياة بلا باب هي المجموعة الشعرية
الأولي للشاعر والناقد اليمني المتميز أحمد السلامي والتي صدرت عن اتحاد الأدباء
والكتاب اليمنيين في إحدى وتسعين صفحة وتضم نصوصاً كتبها الشاعر بين 1999و 2001م
... متخلياً بذلك عن عدد كبير من النصوص التي أنجزها في رحلته مع الشعر منذ نهاية
الثمانينات.....
والسلامي هو أحد الشعراء الذين انحازوا
نهائياً إلى كتابة النص الجديد نافضاً يده من قصيده الوزن التي كتب عبرها نفسه
شقّا كبيراً من عمره الشعري.
ينقسم محتوي المجموعة إلى خمسة محاور:
الأول: (غرفة ضيقة بلا باب) والثاني:
(صديق يطرق الباب غيابه) ويضم كل منهما ثمانية نصوص.
الثالث: مدينة مغلقة، ويشتمل على سبعة نصوص، ومثله المحوران الرابع (تمويه اللذة)
والخامس (تجاعيد) إذ ينطوي كل منها على سبعة نصوص..
تتقاربُ عناوين المحاور الثلاثة الأولي
في دلالاتها، كما تتقارب عوالم النصوص المنضوية تحتها.. من عالم الغرفة (غرفة ضيقة
بلا باب) إلى عالم خارجي جزئي متصل بالعالم الداخلي للغرفة، ولساكن الغرفة في نفس
الوقت (صديق يطرق الباب غيابه) إلى عالم خارجي يشكل الدائرة الأوسع التي يتحرك
فيها هو وصديقه.. ويحتوي كذلك الغرفة وبابها.. (مدينة مغلقة)..
المحوران الرابع والخامس (تمويه اللذة)
و(تجاعيد) يبدوان منفصلين عن عوالم العناوين الثلاثة السابقة. ولكنهما يتأسسان
فيها وبها، ويشكلان امتداداً نفسياً وفنياً لها فهما يقدمان التنويع المكمل للسيرة
البائسة..
دلالة العنوان (حياة بلا باب) تتعمق في
دلالات عناوين المحاور الخمسة للمجموعة أما النصوص فتحتفل على نحو مدهش بيوميات
إنسان مهمش في سكن مهمش يعيشان معاً على هامش الحياة الشاعر بحكم ظروفه.. وبفعل
إرادته. فقد وجد نفسه منذ البداية وقبل
المجيء إلى المدينة يتيم الأب والمكان، وعند انتقاله في منتصف ثمانينات القرن
الماضي من القرية إلى المدينة.. كانت صدمته بالمدينة كبيرة. فكانت تلذذه بالضياع
في أزقه أحيائها القديمة أكبر.
ثم انشغل سنوات طويلة بمراقبة الحياة
السياسية والاجتماعية والثقافية. ولكن من الهامش.. فحتى مشاركته في بعض اعتمالاتها
ظلت دائماً هامشية.
وهذه الهامشية أبقت الشاعر يعيش حالة
العزلة والغربة كما كان منذ جاء إلى المدينة التي حلم طويلاً بمغادرتها إلى مدينة
تحتفل بمقدمه وتأويه.
في الفترة التي سبقت انكباب السلامي على
كتابه شهادته على نفسه ودمار عالمه كان قد اختصر حلم الرحيل عن صنعاء إلى الحلم
بغرفة تأويه هو ودفاتره ليتفرغ لكتابة حكايته مع المدينة الخائنة.
وإذا فقد قرر الشاعر التعايش مع حالة المدينة
المغلقة والحياة في هامشها بوعي وإدراك كبيرين يسطر من خلالهما هذه الشهادة التي
تدين العالم كلّه بأمكنته وكائناته:
تكتب قصائد المحاور الثلاثة الأولي من
المجموعة من خلال رصد التفاصيل الصغيرة لحيوات متجاورة عاشها الشاعر في عزلة
يشاركه فيها صديق (قد يكون صديقاً حقيقاً وقد يكون صديقاً مفترضا) كسله وفراغه
ونومه وعجزه وتمزق داخله بين عاداته والعادات الاجتماعية.
بين الاستسلام للوجود في الفراغ
والثورة على الوجود الفارغ من أي محتوي وتكشف نصوص المحور الأول من المجموعة (غرفة
ضيقة بلا جدران) أو (عن الجالس مع الضجيج اللازم لجلوسه) كما يقول عنوانها الفرعي
عن محاولة الشاعر توثيق حياة غريبة عاشها، حياة الإنسان البسيط المثقف الواعي
أيضاً بثقل وجوده الإنساني ومتطلبات هذا الوجود التي نقف عاجزين أمام تحقيقها.
يمر الوقت بارداً، كسولاً، عطناً
وتتكرر أفعاله فينا كما تتكرر أفعالنا فيه ونحن نسخر من بلادته ونؤرخ لصغائرنا
وردود أفعالنا العادية على قفاه.
من أول نص يبدأ الشاعر بتوثيق تلك
الحياة المكررة:
ومن خلال تقنيات وأنساق لغوية متعددة
الأساليب فيها السرد والمفارقة.
والصور المشهدية البارعة يبني السلامي
أشكال توثيقه لمفردات اليومي المكرر الذي تتقابل فيه حالات الإنفعال العادي في
حياة عادية لا يكسر إيقاعها أي جديد فالمشهد المكتوب في قصيدة (فراغ) يضعنا أمام
سلسلة من المتقابلات اللفظية التي تجسد سلسلة الانفعالات العادية تلك، فأولئك
الذين يتقاسمون الليل وتعب الشهيق سرعان ما تنقلبُ أمزجتهم فينزاح الوجود بشهقات
لا ينقطع وميضها ولكن أفعالهم المختلفة لاجتراح السعادة تنكشف في النهاية حيث:
الشعور الطاغي بالعزلة وتواتر الهزائم
أمام الحياة وكائناتها المجاورة للشاعر يبدو مهيمناً أساسياً على النصوص فالألفة
مع الحياة وكائناتها تبدوا صعبة جداً في ظل عادات الفراغ والركون إلى اللاشيء
واجترار اليومي والعابر وترسخ الالتزام بالمسلك المحتج على الوجود الجماعي إنه
طريق نسلكه ثم نعجز عن العودة منه حتى لو أردنا ذلك.
شعور العزلة عند أحمد السلامي ليس من
انتاج حياة المدينة فهو متجذر في داخله وينعكس منه على الآخرين حتى أنه لينجذب نحو
الأشخاص المشابهين حياة المدينة عمقت هذا الشعور تحول إلى مزاج وطبع إنه في الغالب
امتداد لشعور الغربة الذي عبر عنه السلامي ذات يوم في قصيدة جميلة أسماها (ارتباك
الغريب) وهو شعور ما زال يطارد السلامي رغم تخليه عن كثير من دواعيه ارتباك الغريب
التي تصور انحياز الشاعر لكل غريب تربكه غربته تتطور لتصبح عزلة المهمش الذي يختنق
في (حجرة ضيقة رغم أنها بلا جدران)! والغريب المرتبك هو نفس الغريب في نص
(كوتشينة) مع تعديلات كانت ضرورية بحكم تعدد تجارب الحياة:
المفارقة الأهم في المجموعة التي
تتمركز حول العزلة وما يشتقّ منها إن حياة العزلة التي يمكن أن يوفرها باب محكم
الإغلاق ليست هي المحتفي بها فثمة خوف
دائماً من باب ينفتح كأن انفتاح
الباب ليس بالضرورة أن يكشف عالم البيت لداخله إنه باب يفتح في صدر ساكن البيت
وعقله وإذاً فهي حياة يجبُ أن تنعم بعزلتها وهامشيتها دون باب يتوعد كل حين
بالانفتاح بالأحرى دون محيط حميميّ نفتح له أبواب قلوبنا وعقولنا دون غريب يتلصص على
حريتنا وهذا الخوف سيتحول إلى هاجس مرعب يجدر بالشاعر ان يتخلص منه بكتابته وهذا ما
حدث بالفعل فثمة إشارة توحي بذلك في قصيدة (كسل):
ولكن الشاعر حين يجرب كسر هذا الحاجز
يكتشف أن حضوره لا يتحقق ثمة غياب إنه يغيب عن نفسه أو يغيب الآخر عنه.
حالة الفقد الصادمة التي تعقب انفتاح
الباب تتعدد أساليب التعبير عنها في عدد من نصوص المجموعة، إنها تيمة من تيماتها
وثيقة الصلة بسائر مادتها.
كما تبدو أحياناً غير مخلصة وغير آمنة
أو مؤتمنة
باب الغرفة لا يضمن لك نوماً حتى
الظهيرة. (انهزام ص34)
العلاقة المختلة بالأبواب تنزاح من
اختلال بين قدرة الشاعر على الكتابة وانهزامه دائماً أمام فرص الكلام التي قد تكون
مفاتيح لفرص في الحياة فكم من مناسبة كانت مؤاتية للحصول على المكاسب أحبطها خوف
الشاعر من الكلام ..... الصمت.
أيضا باب مغلق تمر الحياة خلفه ولا
نراها:
إن نص (فزع) ص69 النص الأول في محور
المجموعة الخامسة (تجاعيد) أو (الحياة التي مرت في الصباح وأنا نائم) وهو النص
الذي اختاره الشاعر لغلاف المجموعة الأخير إلى جوار صورة فوتوغرافية له أمام باب
خشبيّ عادي جعلتها صدفة الالتقاط تنقسم إلى قسمين (الصورة ومقلوبها).
هذا النص يقدم لنا الذروة المتوترة
لعلاقة الشاعر بالباب ودلالة هذه العلاقة التي تنطلق من لوحة الغلاف الأول نفس
الصورة مع اسم الشاعر وعنوان المجموعة (حياة بلا باب).
لتمر عبر نصوص المجموعة كلها حتى تصل إلى
الغلاف الأخير:
من حالة الخوف.. والفزع.. إزاء الأبواب
ومن ارتباك الأصابع وفشل فرص التعارف والتشوش والضياع في غبار الملل والسأم يكتشف
الشاعر أن ظلام غربته وعزلته وغيابه ظلام جوهري وأنه يرتطم بجدران راكدة.
في (تمويه اللذة) و(تجاعيد). تتناسج
سيرة الحب والألم والخيبة والانكسارات والخسارات الفادحة بموضوعتي العزلة والغربة
و(تيمة الخوف من الأبواب) اللتين تلوحان خلفيّة للمشاهد تتأسس عليها وبها فلا تكاد
تتكشف ظلامات العزلة والغربة إلاّ ليشتعل السرد والصور المشهدية بعذابات الحب
وخيباته ومفارقات تحايل الكائنات البشرية على بؤسها وكبتها.
وكذلك تأمل الخيبات التي تعقب كل فعل
إنساني في الغالب وثمة شقاء نصنعه لأنفسنا حين لا نكتفي بالشقاء المتوفر لنا منذ
الولادة. السيرة والسرد في هذين المحورين أكثر وضوحاً. والحالة الشعرية أكثر سيطرة
على الشاعر فهي تنسرد متدافعة من الذاكرة مبرزة أن الشاعر حتى وهو يذهب في اتجاه
الذاتي والمقصي في عالمه الخاص جداً وفي رحلته التي هو أجدر بامتلاكها لوحده كان
دائماً يقع تحت مهيمن الآخرين.. الحبيبة / الأنثى الأسرة الأقارب.. الخ.
ومن نفس البئر بئر الذاكرة
يلتقط الشاعر موضوعاً آخر مألوفاً إنه الحب الأول الذي غالباً ما تشابه
الخيبات فيه حيث المحب قليل الحيلة والحبيبة لا رأي لها والبقية معروفة ولكن القصة
العادية تنكتبُ بغنائية شاحبة أضفت عليها مرارة السخرية والمفارقات اللغوية
والكثير من الشجن الذي خلق فيها حالة شعرية خاصة وبإتقان فني أكثر تنكتب قصيدة
(ارتياب) التي تتخلص من غنائية سابقتها لتستفيد أكثر من مفارقة التضاد ومن تطور
حالة الأنثى من زميلة يتنافس الجميع على حبها بوصفها أول اكتشاف أنثوي لأعينهم إلى
الأنثى الحبيبة التي سرعان ما تبيع الحب بالمال وتترك الحبيب وتتزوج بغيره إلى
أنثي ثالثة أكثر تركيباً تنتقل بين أحضان الرجال بلا حب ولا طمع في الحب:
على هذا النحو تتطور الأنثى في ذاكرة
الشاعر وتتطور معها علاقته بها في بقية قصائد هذا المحور ليبدو هو الخاسر في كل
مرّة وهذا يفسر إلى حد ما تبدّي الفعل الجنسي المشترك بين رجل وامرأة في قصيدة
(انطفاء) خاتمة قصائد المحور الرابع وكأنه فعل انتقامي يقع من الذكر على الأنثى،
فهي (ترتعش كالدجاجة عند الذبح) وهي (تبرد كأنها خارجة للتو من ماء نهر ثلجي) هل
المقصود هنا برودة الموت؟
ولكن الشاعر في سيرته عانى كثير من
الحياة والكائنات التي تجاوره فيها حتى لتبدو سيرته هذه نوعاً من قلب الداخل
المكبوت إلى الخارج لتفوح الدفائن، دفائن القهر.
إن محاولة الشاعر رسم قبح الحياة وفضح
كائناتها ينكتب بعيدا عن أي صراخ أيديولوجي وهذا من أهم سمات الكتابة الجديدة -
الكتابة الشهادة..
***
فيما سبق مرت إشارات عابرة إلى بعض
الجوانب الفنية لمجموعة (حياة بلا باب) التي يبدو السرد أهم سماتها. وبقي أن أشير إلى
أن السلامي قطع شوطاً كبيراً في مفارقة اللغة المجازية حتى مكونات الصورة عنده
يحاول دائماً تركيبها من عناصر لم يبتذلها الاستعمال فإذا تجاوزنا بعض البناءات
المجازية مثل
(أتمشى في رأسي) و (أكلوا أصابعهم
وناموا) وغيرها فإن لغة السلامي تبدو طازجة وطرية.. ناهيك عن سهولتها واستسلامها
للبساطة التي أبعدتها عن التصنع والركاكة والتعقيد.
في نص بعنوان (حين أعبر الشارع) لا
يكون العنوان عتبة للنص أو نصاً موازياً له، ولكنه جزء من النص فهو أول شيء فيه
هكذا ينكتب النص:
أخيراً فإنني أعتقد أن الشاعر أحمد
السلامي في منحاه الكتابي بمقدار ما يستثمر توجهات المرحلة الجديدة في الكتابة
التي تنتقل من الخطاب المتعدد الدلالة إلى خطاب الشهادة والمعايشة فإنه يستجيب
لتوجهات داخله فثمة شخصانية تتحقق في ما يكتبه السلامي حتى لو أسقطنا مؤثرات
المرحلة وتوجهاتها مع أن المعروف عن هذا الشاعر أنه يعد من بين قليلين في المشهد
الإبداعي اليمني التماساً للجديد المتجاوز وانفتاحاً على كل هواء مختلف.
وانشغاله بتجربته يسير بالتوازي مع
انشغاله بالتجارب الأخرى في المشهد الثقافي اليمني والعربي ولعل تناولاته النقدية
لبعض النتاجات الإبداعية وجوانب من الحراك الثقافي لا تنفصل عن توجهاته الإبداعية،
بل تكملها وتذيلُ عليها.
*القدس العربي 2004/05/08
تعليقات
إرسال تعليق