أحمد السلامي: جيل التسعينيات ليس فرقة موسيقية مطالبة بتقديم عرض جماعي
نكذب على أنفسنا حين نشير مجازاً إلى الساحة الثقافية، حيث لا يمكنك العثور على ساحة لديها مشهد يراكم الخبرات ويبني عليها
أجرى الحوار/ محمد الشلفي*
أكتوبر 2010
لماذا قد يحب المبدع العمل في بيئة مثالية؟ ماذا عن خلق البدايات وما يتلوها؟ وهو ما فعلته كل بيئة يمكننا المقارنة بها. لم تصبح الأمور على خير ما يرام، إلا بعد أن كان سيئة للغاية! لو انطلقنا من تعريف الإبداع والمبدع سننتهي إلى أن نبتة ما تستطيع العيش في كل الظروف، وهي قادرة على التأثير أكثر من التأثر. إذن ألا يبدو المبدع اليمني حالماً بعض الشيء؟لفهم ما يحدث في ساحة الأدب الثقافة، تُجري شاشة "النداء" سلسلة من الحوارات، ويناقش الحوار التالي مع الشاعر أحمد السلامي رئيس تحرير الموقع الثقافي "عناوين ثقافية"، الجدل الدائر حول قصيدة النثر، وعن المسؤول عن حال الثقافة، وعن أسباب تجعل جيلاً ما ليس قادرا على الاحتفاء بما قدم ناهيك عن الاستمرار. والشاعر من مواليد صنعاء 1972، له 3 إصدارات شعرية "حياة بلا باب"، "ارتباك الغريب"، و"دون أن ينتبه لذلك أحد".
> كأحد كتاب قصيدة النثر في اليمن..
يكاد نتاج الشعراء فيها مؤخرا ينعدم.. ما رأيك؟
- هناك أمور يصعب اختبارها في اليمن أو
الخروج بمؤشرات حقيقية تعكس مدى حضورها أو غيابها. إذ كيف لك مثلا أن تقيس عدد
المعجبين بآخر فيلم حصل على الأوسكار بينما لا توجد في صنعاء دار سينما؟!الفضاء
العام هنا غير مؤهل لاختبار أي أداء جمالي أو معرفي مغاير للسائد المهيمن بقوة على
الذائقة الجمعية. وعلاقة الشاعر اليمني بقصيدة النثر تندرج ضمن هذا الالتباس.
والأولويات في صنعاء معنية دائماً بتلبية ما يتواءم مع النسق التقليدي في الحياة
والأدب والسياسة. ولك أن تتأمل دلالة وجود شخصيات بارزة من اتحاد الأدباء في لجان
تحكيم مسابقات متلفزة في الشعر الشعبي، وكيف جرى تحويل تلك المسابقات إلى مناسبة
لبث المدائح، مع أن الشعر الشعبي موروث شفهي متعدد الأغراض.ولا تتعطل سلطة الواقع
وتفقد صرامتها إلا عند انكفاء الذات على ممارسة مستوى من التواصل الذهني مع
أشواقها الخاصة، وبهذا المستوى من التجريد تتحدد العلاقة بين النخبة ومستوى
تواصلها مع تطلعاتها وهواجسها، وهنا يتساوى الحضور مع الغياب، حيث الاشتغال على
الأفكار والتصورات الجمالية يظل اشتغالاً داخلياً معزولاً عن الواقع، لذلك يصعب
الجزم بتراجع أو تقدم خطاب جمالي أو تصور فلسفي من هذا النوع الجواني، لأنه لم
يتحقق خارج الذات، ولأن أداة القياس تكون غير موجودة أصلاً. وقصيدة النثر الآن
تكتسب في الواقع المحلي هذا المستوى من التجريد. ويبدو أنك تجعل من كثافة النشر
مقياساً لوفرة الإنتاج واستمرار اليقين بهذا الشكل. ولا أظن بيئة النشر في اليمن
مناسبة لإقناع الشعراء بمواصلة اختبار تجاربهم على هذا النحو، حيث لا توجد مؤسسات
نشر وتوزيع بالمعنى الاحترافي. لدينا مركز عبادي الذي تقتصر مهمته على طباعة
المجموعة الشعرية ومن ثم الاتصال بالشاعر الذي يتحول إلى عتال يحمل النسخ على ظهره
ولا يدري أين يضعها. وعندما نلمس أحيانا ما يبدو مؤشراً لولادة صحافة ثقافية، تمضي
السنوات، وتظل تلك التجربة تحبو في حظيرة الإعلام الرسمي ولا يتحرر أداؤها من
الالتزام المجاني لخطاب السلطة. أما الصحافة الأهلية والحزبية فلديها أولوياتها
السياسية والتجارية، ولا يمثل حضور المساحة الثقافية عندها إلا ما يلبي اكتمال
التبويب.
> هل ما زال الجدل حول شرعية قصيدة
النثر يمثل عائقاً لكتًّابها؟
- هذه مرحلة تم تجاوزها ولم تعد تمثل
عائقاً تجاه إنتاج قصيدة النثر بكثافة على المستوى العربي، ومع ذلك فإن هذا النوع
من الجدل لم يدر في اليمن إلا على هامش حوارات ثنائية بين شاعر منحاز للنثر وآخر
للتفعيلة. أي أن المجتمع هنا لم يشترك في الجدل كما حدث في السعودية على سبيل المثال،
حيث دخل بعض رجال الدين في معركة مفتوحة لم تكن معنية برفض الشكل الشعري الجديد
بقدر ما كانت ضد الخطاب الليبرالي باعتباره يشكل خلفية الحداثة الشعرية. لذلك فإن
تجاوز الجدل حول شعرية النثر لا يعني الحسم بقدر ما يعني التأجيل، والذي تأجل هنا
ليس البت في مشروعية القصيدة، بل تأجل البت في التوقف عن تقديس الماضي بتمثيلاته
الأخرى المتصلة بتحديد إقامتنا الجبرية داخل طريقة واحدة للتفكير، أما التنازل عن
ثوابت الموروث الشعري ممثلاً بتفعيلات الفراهيدي، فإنه لا يضمن الولوج إلى الحداثة
والمعاصرة إلا من بوابة المجاز، وهذا ما يجعل من قصيدة النثر في ثقافتنا مكسباً
معلقاً بنوايا الغد، وطائرة ورقية نعبر بها من الحلم إلى الحلم، وعبر كتابتها
نتسلى بمتابعة بروفة لغوية لحداثة لا نعيشها. غير أن الإشكالية التي تواجه قصيدة
النثر الآن، ويجري تداولها على نطاق ضيق، هي الشعور بالاتجاه نحو التقولب واستنساخ
نبرة إيقاعية توحي بتشابه النصوص، وأرى أن محاولة التمرد على هذه النبرة ستفتح
أمام القصيدة الجديدة مقترحات وبدائل من شأنها أن تثري قصيدة النثر وتسمح بظهور
التجارب الشعرية الفردية التي اختفت منذ سنوات، بمبرر غير مقنع، مفاده أن قصيدة
النثر ضد الشاعر النجم، وباستعارة لغة الدراما قيل إن البطولة ستكون جماعية، وعلى
ما يبدو ها هو المأزق الآن قد صار جماعياً، وإن كان الحديث حوله لا يزال يدور
بحذر، وذلك أمر غريب لمسته بنفسي، وهو أن قصيدة النثر بمواصفاتها الراهنة تحولت
عبر منتجيها ونقادها إلى سلطة لها منابرها وحراسها، وبعض حراس هذه السلطة لا
يقبلون النقد ويمكن أن يتهموك بالرجعية والحنين إلى الماضي إذا ما قلت إن ثمة
ركاكة شعرية تحتمي بالنثر.
> في ما يخص الثقافة ثمة موت ثقافي
إذا صح التعبير في الشعر، في القصة، في الرواية، ربما روايات قليلة صدرت، وهناك
محاولات تبدو يائسة كإصدارات ثقافية متناثرة هنا وهناك، مواقع إلكترونية، ومؤسسات
ثقافية تحاول أيضا، أين تكمن المشكلة.. في الجهة الرسمية، في المثقف، في المجتمع؟
وعلى عاتق من تقع المسؤولة الكبرى؟
- لم نشهد حتى الآن مرور فترة يمكن
وصفها بأنها كانت ذهبية للثقافة، لكي نقارن بتذمر بينها وبين الفترات اللاحقة، وما
حدث في 2004 لا يمكن القياس عليه، لأن الفعاليات والمطبوعات كانت مدعومة بميزانية
استثنائية مكرسة لمناسبة صنعاء عاصمة للثقافة العربية، وأدارها وزير ومثقف
استثنائي هو خالد الرويشان. أما الموت الثقافي حسب تعبيرك فقد اعتدنا عليه لدرجة
أننا لم نعد نتبادل العزاء.لاحظ أنك اختزلت حالة الموت في الوجه الأدبي والمؤسساتي
للثقافة، بينما العلاقة المباشرة للجمهور كانت مع السينما التي اختفت من صنعاء
بالتزامن مع حالة الشلل التي أصابت المسرح، ناهيك عن تقوقع الفنانين والمطربين في
صالات الأعراس في وجود شركات إنتاج ومحطات فضائية تغازل الجمهور بأصوات مستنسخة
تقلد مطربين أحياء وراحلين، وكأن الزمن توقف منذ السبعينيات.أظن أن التحليل
المنطقي لتفسير هذا الركود الشامل يتجه نحو إلقاء المسؤولية على انعدام الاستقرار
السياسي في البلد، فالفنون والآداب تتراجع دائماً في أوقات الأزمات وأثناء
الانهيارات الاقتصادية التي تتعرض لها الدول، واليمن منذ إعلان الوحدة قبل عقدين،
لم تفارق الأزمات الاقتصادية والسياسية، علاوة على الحروب والاضطرابات التي تتخلل
الزمن الوحدوي بمعدل أخطر مما كانت عليه في زمن التشطير.أما بالنسبة للمبدعين
كأفراد ستجد أن الدافع الوحيد الذي ما يزال يربطهم بالقراءة والممارسة الإبداعية
يتصل فقط بمقدار ما تبقى لديهم من شغف وميول شخصية، وباستثناء هذا الشغف لا يوجد
ما يغري بالتعلق بحرفة بائسة كهذه.. حتى إننا نكذب على أنفسنا حين نشير مجازاً في
مقالاتنا إلى الساحة الثقافية والمشهد الثقافي، بينما لا يمكنك العثور في العاصمة
على ساحة لديها أجندة أو مشهد يراكم الخبرات ويبني عليها، ولن تعثر حتى على مكان
يلتقي فيه الأدباء بعد أن تحول اتحادهم إلى محمية سياسية يحظر على الآخرين
الاقتراب منها!
> مؤخرا كتبت أكثر من مقال عن الجيل
التسعيني، كواحد من هذا الجيل بداية ألا توافقني أنه هش سرعان ما يسلِّم...
- يسلِّم بماذا؟ دعني أقول إن جينات
التسعينيين متوارثة، لذلك ستجدهم ينخرطون مثل الأجيال السابقة في أداء مهمات بعيدة
عن الإبداع، والفارق أن الزمن الحاضر أكثر هشاشة من الماضي، لذلك تضيق مساحة
الاختيار بين الإبداع وسواه. ضع في الحسبان كذلك أن هذا الجيل منذ أن وعى نفسه في
بداية التسعينيات والبلد يستهلك السياسة بجرعات زائدة.. استيقظنا على واقع ملغم بالأزمات
السياسية والحروب الأهلية والاستقطابات، حتى الذين يعيشون في العاصمة؛ كبرى مدن
البلاد، لم يتجولوا بين المسارح ودور السينما وحفلات الموسيقى، ولدنا على برع في
ميدان التحرير، ونشرات أخبار مملة، وتعرضنا لموجة أناشيد وطنية يغيب فيها اسم
الوطن. ربما نكتشف ذات يوم أننا عشنا بلا هوية ننفعل بها ومعها، وبلا وطن يشبه
أوطان أصدقائنا الذين يبعثون لنا كتبهم الأنيقة المطبوعة على ورق فاخر. هويتنا
متخيلة، وأحلامنا بالهجرة لا تكف عن مراودتنا. والذين في أعمارنا يعيشون مثلنا
حالة انفصام بين حداثة متخيلة يتشربها اللاوعي من التليفزيون والانترنت، بينما
يتعايش الوعي مع نمط حياة تقليدية تمضي ببطء شديد.
> إنجازات هذا الجيل بدأت بمشاريع
ربما برؤية واضحة قادرة على إحداث فارق في الواقع الثقافي/ الأدبي، وانتهت إلى
مشاريع شخصية. من يتحمل مسؤولية هذا التراجع برأيك؟
- لم يكن لدى التسعينيين أي مشروع
جمالي متفق عليه.. توزع الشعراء بين العمود والتفعيلة والنثر.. والشيء الذي كان
يجعلهم يبدون وكأنهم كتلة واحدة هو الاتفاق بصمت على الدفاع عن حقهم في الوجود،
فلما تحقق هذا الهدف انتهى التحالف. وستجد في تاريخ الأدب أن الذين صنعوا التحولات
هم أفراد، وبالتالي يبقى التجييل توصيفاً شكلياً لا يلزم كل فئة عمرية بتنفيذ
مشروع استراتيجي موحد، وجيل التسعينيات ليس فرقة موسيقية مطالبة بتقديم عرض
جماعي. وعادة ما يتكرر السيناريو مع كل جيل أدبي، حيث تتوقف العربة ليهبط منها
البعض بإرادتهم في منتصف الطريق، وقد لا تصل إلى محطة النهاية إلا وهي تقل 3 أو 4
أشخاص، ويمكنك أن تستعيد قائمة جيل الثمانينيات لتعرف كم تبقى على متن قطار ذلك
العقد.
> هل فعلا جيل التسعينيات، انقسم
كما ورد في مقال لك، إلى 3 ندابين ومنجمين يحذرون من الانهيار، كتاب شعارات ومدائح
للاستقرار في زمن الفوضى، ومن آثر الصمت والانشغال بمتاهات الحياة؟ وما الرابط
برأيك في توجه كل هؤلاء؟
- لم أكن أعني في هذه المقالة القصيرة
جيل أدباء التسعينيات فقط.. بل أعني جيل التسعينيات بأكمله من أدباء وصحفيين
ونقابيين وحزبيين وغيرهم ممن تخرجوا من الجامعات. حتى إنك لا تعرف أين يذهب
الأطباء والمهندسون والمحامون الذين يفترض أن يشكلوا نواة لمجتمع مدني. كلما كنت
أشاهد حفل تخرج لطلبة جامعة كنت أظن أن نمطا جديدا من التفكير سيفرض نفسه ويدشن
حياة مختلفة ومطالب تتعلق بعصرنة أسلوب المعيشة في المدن، وأن من بين هؤلاء من
يفترض أن يكون مستهلكا لما ينتجه الشاعر والروائي.. كنت أقول هؤلاء هم الذين
سيحدثون انقلاباً في البنية الاجتماعية، وهم جمهور الثقافة المستقبلي. ولكن لا
تدري كيف يبتلعهم الواقع بشراسة، وينتظمون في الطوابير الثلاثة التي ذكرتها.
> قلت في مقال آخر أيضا
"اختلفنا مع الماضي بعدوانية تحجب الفهم والمعرفة، وعلى أيدينا تحول الصراع
بين الأجيال إلى صراعات شخصية". هل هي دعوة للمصالحة مع الماضي والحاضر
بمكوناته، وإقرار باقتراف الخطأ؟
- لم يكن السياق الذي كتبت فيه هذه
العبارة يفضي إلى المعنى الذي توحي به حين تكون مجتزأة على هذا النحو، وينبغي أن
تعيد قراءتها في السياق مع استحضار المناسبة التي جعلتني أكتبها. كنت أتابع أصداء
حملة قاسية ضد الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي لا تروقني كتاباته، لكن الحملة
انتقلت من الحديث عن تجربة الرجل إلى الحديث عن صلعته، وأنا ضد أن تكون الحداثة
عدوانية وذات مواقف شخصية. أظن أن الحداثة تعني التسامح والقبول بالتعدد،
واختلافنا مع الموروث الشعري لا يعني أن تتأسس القطيعة مع ذلك الموروث على القطيعة
مع مبدأ الاستيعاب والحكم على التجارب في إطارها الزمني، وهذا ما عنيته بالقول إن
العدوانية تحجب الفهم والمعرفة، وأي مصالحة بين الماضي والحاضر لا تعني خلط
الأوراق أو التنازل عن خيارات اللحظة الشعرية الراهنة.
* نقلا عن صحيفة "النداء" 4
أكتوبر 2010
تعليقات
إرسال تعليق